الأحد، 21 يوليو 2013

عزيزي نيتشه.. كل عام وأنت بخير.

 أردت فقط أن أعلمك بأنني، وبصدقٍ كامل، حاولت محاربة الوحوش، دون أن أتحول إلى مجرد وحش آخر.. وأتبعت إرشاداتك العامة، بعدم التحديق إلى الهاوية، والإكثار من الصلاة على النبي، و لكنني فشلت على ما يبدو في مهمّتي الوجودية. والآن، يصيبني الغم كلما نظرت إلى وجهي في المرآة، ورأيت الحراشيف التي أصبحت تخفيه، وكلما نظفت عيني الواحدة في منتصف رأسي بعناية، الصداع الآن أقل بعض الشيء مما كان، لكنه مُركّز. عزيزي نيتشه.. يبدو أنني سأتوقف عن الحرب، وأجلس بجوار أمي لأسمع منها مشاكل الحياة اليومية، وأختلس لحظات في البلكونة، أقطف الملوخية معها وهي رائقة المزاج، محاذراً ألا أخيف الأطفال في العمارة المقابلة..

 يورز سنسيرلي..

السبت، 20 أبريل 2013

بانت رشا


كنت متأكد والله

رشا رزق، أغاني الكارتون، رفيقة المراهقة، والساعات المختلسة أمام التلفزيون قبل النوم، أو ساعة الغداء، أو عندما تنتهي من واجب المدرسة مبكّراً، وطبعاً: الأجازة بالكامل، وكذلك حب عارم من طرف واحد، لفتاة لم أرها إلا الآن..

أتذكر دائماً بيت شعر لأدونيس، وهو شاعر سخيف بالنسبة لي إلا أن بيت الشعر هذا، بالتحديد، شديد الجمال للأسف، وبشكل استثنائي، يقول فيه أن :

لفتاتها تَخزُ
وجفونها وَتَرٌ وأغنيةٌ
صيفيّةٌ ، وقميصُها كرَزُ .

عموماً من السيء أن يحب المرء بيت شعر لشاعر يكرهه، هذا السوء يماثل في حدّته، بهاء اكتشاف صباح وجه فتاة كنت تحب صوتها فقط، متقبّلاً مصير حب كهذا ببصيرة لا تهتم بأي شيء زيادة..

بوجه تظهر فيه نغزة بسيطة قرب زاوية فمها اليمنى، وطابع حسن في منتصف الذقن، ولمن ينتمي طابع الحسن إن لم يكن لرشا؟
من هذه الزاوية، أول شيء يتم تمييزه بعد ذلك هو لمعة العين تلك، ضحكة بسيطة تجعل الصورة كاملة، ساعة الساعد الأيسر، وخاتم يحتل مكانه في أصبع طويل ممتد كخطّ مستقيم..

الذراع اليمنى ترتفع للأعلى، واليسرى للأمام، بعض خلق الله لا يحتاج وجودهم إلى زوايا، حيث كل حركة لهم، تمثّل قوساً يُكمل ما يليه..

يمكن كذلك ملاحظة حركة الأصابع، الحركة التي لم تتوقف، طبعاً، في اللحظة التي توقّف الزمن فيها لحظة التقاط الصورة، من حضر رشا يومها، لابد أنه رآها وهي تطرقع بأصبيعها في كلتا اليدين، مستجيبة لإيقاع لحن ما.. ما حصلنا عليه كان مجرد تلميح فاتن..

رشا، إسم الظبي

بصوت كهذا، كان بإمكانها أن تغزو العالم، لكنها بدلاً من ذلك، قررت أن تغنّي لمجموعة من الأطفال لا يتجاوزون الخامسة عشر، مفضّلة أن يكون عرشها من الألعاب والحلوى، يعلوه طلاءٌ برّاق من ورق تجليد دفاتر المدرسة..



الخميس، 7 مارس 2013

سايبر


(1)

في آخر أيام سبتمبر 2012، كتبت دينا الهوّاري في مدوّنتها..
الفارق الزمني بين تدوينتها تلك وبين التي تسبقها يبلغ حوالي السنتين، عرفت هذا بالصدفة، ربما في ديسمبر، أيام امتحانات الكلية النهائية التي يحتاج المرء فيها إلى تضييع وقته بشدّة بعيداً عن كتب الدراسة. في غالب الأمر كنت اتصفح الفيس بوك بكسل، حين خطرت ببالي فكرة العودة لقراءة بضعة مدوّنات مفضلة لي، كنت أضعها في مجموعة واحدة على الهامش الجانبي لمدونتي التي لم أعد أكتب فيها تقريباً، قررت أن هذا سيضمن لي قراءة هادئة تلك الليلة. هناك متعة خاصة بالتحديد في اعادة القراءة، تختلف تماماً عن فكرة الاستمتاع بقراءة نص يتعرّف عليه المرء لأول مرة. أن يقرأ المرء ما سبق أن قرأه، واعتبره هو بنفسه جميلاً، هو أمر يشبه مقابلة مدرسّ الثانوي المفضل صدفة في الشارع. لا حاجة للكلام الكثير، فقط سؤال سريع عن 
الأحوال.
كنت متعباً، وخائفاً من الامتحان المقترب بسرعة، وخائفاً من كونها آخر سنة في الجامعة، وأنه يفترض بي العمل بعد عدة شهور، ولم أكن قادراً على قراءة شيء جديد، بدا خيار اعادة القراءة ممتازاً. كنت أريد أن اقرأ وأنا أعرف كيف ستسير الأمور، بدلاً من نص غريب عني.

تدوينة دينا الهوّاري الجديدة حرمتني من استعادة الذكريات، بدت مدونتها بهذا الشكل نشازاً وسط المدونات الأخرى التي زرتها قبل ذلك، والتي تم تحديث أغلبها آخر مرة منذ سنتين على الأقل.. قرأت التدوينة. ثم ابتسمت.. البشر لا يتغيّرون تقريباً.

(2)

اكتشفت عالم المدوّنات الموازي في مرحلة مبكرة نسبياً، اول سنين الكلّية، 2006، أول مرّة اعاين فيها التعليم الجامعي المصري بكل تجلّياته ذات الرائحة الكريهة. لم أكن أمتلك وصلة انترنت في ذلك الوقت، لهذا كان السايبر هو الوسيلة الوحيدة للدخول على الشبكة.. انهي يومي في الجامعة_وقتها كنت مواظباً على الحضور كطالب مجتهد لم يكتشف الخدعة بعد_ حوالي الساعة الرابعة، ثم اخرج غاضباً، ومنهكاً إلى الشارع.. امشي من الجامعة إلى السايبر متسائلاً عمّا أفعله بالضبط..

من يسأل ماذا كنّا نفعل قبل الفيس بوك بالتأكيد لم يمرّ بمرحلة المدوّنات العظيمة. لا أعرف كيف يمكن للمرء أن يعيش حياة طبيعية، دون أن يعرف (أبو الليل).. شخص يكتب تحت هذا الإسم المستعار مدوّنة إسمها (يا خي أحه).. كنت أدخل المدوّنة وأنا خائف من أن يراها صاحب السايبر. في هذا الوقت، كان الرجل قد بدأ في التحول لسلفي صميم، وبالتالي يعتبر نفسه مسئولاً عن المحتوى الذي يتعامل معه الزبائن، بإعتباره صاحب المكان، وهو الذي يقوم بتوفير الخدمة لنا مقابل مبلغ من المال. كان يشرح هذا بصوت عالٍ في كل مرّة يضبط فيها شيئاً لا يعجبه على أحد الشاشات، سواء كانت مادة إباحية أم لا، مكرراً لنا أنه ليس على استعداد لدخول جهنّم بسبب مجموعة من العيال الذين اكتشفوا شارباً أخضر اللون في وجوههم فظنّوا أنفسهم رجالاً، كان من الطبيعي كل فترة أن تسمع الصراخ والشجار في المكان ثم الجملة الأشهر في تاريخ هذا السايبر، والتي تتكرر كل مرّة: "والله أنا لقيت دي ظهرت لي، مش أنا اللي فتحت الصفحة"، ثم شجار آخر لطرد المتلبّس من المكان، وشجار ثالث من أجل استرداد المال، لأنه كان يجبر الجميع على دفع الساعة مقدّماً، ونقوم بتجديدها دورياً. 

مدوّنة أبو الليل كانت شيئاً لا يمكن وصفه، كم غير طبيعي من السخرية واللماحة والذكاء، سخرية من حسني مبارك، ومن ممتاز القط، ومن مقاله عن طشّة الملوخية التي يشكو فيه من كون حسني مبارك محروماً من أكل الملوخية لأن أعباء الرئاسة ثقيلة، ومن لوحات فاروق حسني التي يبدو أن بها علامات لا يراها إلا المتبصّرون، و قصائد النثر التي لا يفهمها أحد، ومن نفسه حين يكتب هو الآخر نصوصاً لا يفهمها أحد،  كل هذا مع قدر كبير من بذاءة اللسان شديدة الذكاء، كنت أضحك بهستريا وأنا اقرأ لأبو الليل، وبشكل مكتوم محاولاً عدم لفت نظر صاحب المحل..

بقيت كلمة (أبو الليل) نوعاً من نادٍ سرّي، أعضاء لا يعرفون بعضهم إلا من خلال هذه الكلمة، في السنة الثانية من الكلية، قلت كلمة "أبو الليل" وسط مجموعة كبيرة من الناس، فضحكت واحدة من أكثر الشخصيات خجلاً التي عرفتها في حياتي، ثم كتمتْ الضحكة مباشرة حين نظرتُ لها بإندهاش. صمدتْ هذه الصداقة بالذات رغم تفكك غيرها على مدار سنوات الجامعة الطويلة.

(3) 

قليلون من عاصروا المدوّنات، أقل منهم من عرفوا المنتديات.. أيام الاعدادية الهادئة، والسفر الأول حين يقرر رب الأسرة أن يتحرك إلى دولة من دول النفط.
 منتدى روايات، واكتشاف أن بالإمكان التعرّف على أشخاص يقرأون نفس ما تقرؤه أنت. كان المنتدى مجموعة من الناس التي قررت ان تجتمع في مكان واحد، لأن لهم اهتمامات مشتركة تتعلّق بالقراءة بشكل عام، وبقراءة سلاسل روايات مصرية للجيب بشكل خاص، نبيل فاروق وأدهم صبري في بداية الأمر كما هو المعتاد، ثم الابتعاد عن هذا العالم الساذج إلى عالم أكثر تعقيداً بشكل نسبي، أحمد خالد توفيق، ورفعت اسماعيل.


بدا المنتدى في هذه الأوقات بمثابة المكان الوحيد الذي يمكن للمرء فيه أن يتحدث في أشياء تهمه فعلاً، عن الكتب، عن الروايات، عمّا يفعله أبطال الراويات هذه، عن الحبكات.. عن مواعيد صدور الروايات القادمة.


هل تعرف الأطفال الذين لا يفعلون شيئاً غير القراءة؟ والذين ينحصر برنامجهم أيام العطلة، ونهاية الأسبوع في نشاط وحيد هو المزيد والمزيد من القراءة؟ العنصر الأهم في حياة هؤلاء هو الوحدة في غالب الأمر، وسط عالم المراهقين المهتمين بكرة القدم بالتحديد، أو بصيحات الموضة و(الآي-شادو) يبدو الاهتمام بشيء كالكتب انتحاراً، واعلاناً عن عدم صلاحيتك له.. عالم شديد القسوة، يرى في النظّارة أصلاً ما يستحق السخرية، ويسحق كل بادرة ضعف .. ما فعله هذا المنتدى هو أنه وفّر مكاناً لاجتماع كل هؤلاء، وليصبح بإمكانهم الكلام عن هذه الاشياء التي يفعلونها، وأن يكتشفوا_بذهول حقيقي_ أن هناك من يفعل ما يفعلونه تماماً.. يخبيء الروايات في كتب الدراسة، ويسترق الساعات من أجل مغامرة جديدة لأدهم صبري، أو حذلقة مضحكة للعجوز رفعت إسماعيل.

(4)

ثم أن الفيس بوك جاء ليفتن الناس عمّا كانوا فيه..
من قال أن الانترنت يتّسع مع الوقت؟ الواقع أنه يضيق بسرعة شديدة، وكل واحد يصبح بإمكانه أن يراقب الآخر بسهولة شديدة..
الفيس بوك يتحول إلى وحش هائل يلتهم كلّ شيء، ويجعل نفسه في المركز. السفينة الأم، كل شيء مهما كان، له اتصال بالمركز.. لو قرأت مقالاً في مجلّة درجة ثالثة على الانترنت، واعجبك، يمكنك بسهولة أن تقوم بترشيحه لأصدقاءك على الفيس بوك.. ترجوك المجلّة في الواقع أن تفعل.. أن تدخله إلى وحدة المعالجة المركزية عبر ثغرتك هذه.

(5)

كنت قد بدأت في اكتشاف المدوّنات السياسية، في نفس الوقت الذي استعان فيه صاحب السايبر بفتاة لمساعدته في العمل، بدا هذا غريباً من كافة الأوجه، كلامه عن المراهقين الفرحين بشواربهم الخضراء، والنار والبنزين، كان متعارضاً تماماً مع وجود الفتاة، التي عرفنا فيما بعد أنها في بداية عامها الأول في الكلية، مثلي تماماً. بدت لطيفة، بملامح شديدة الهدوء، وجيبة شديدة الضيق لا تتغيّر. مسئوليتها الأساسية كانت اطفاء الاجهزة غير الشاغرة من أجل التوفير في الكهرباء، التي كان صاحب المحل مهووساً بها، واضيفت مهام البوفية إلى عاتقها دون اعتراض كبير منها بعد بداية عملها بفترة بسيطة. ومنذ اللحظة الأولى اثبتت أنها ليست فريسة سهلة، تشاجرت في يومها الأول مع فتى كان يريد رقم هاتفها، وآخر رفض دفع ثمن الساعة مقدماً، وتحرّك للجلوس على جهاز لا يجلس عليه أحد، وهي_أمام عيني المذهولتين_ أمسكت بالكرسي ودلقت الفتى على الأرض.. تم استيعاب المشكلة سريعاً، والفتى التهم كرامته سريعاً مقابل عدد ساعات مجّاني ترضية من صاحب المكان، لكن الحدود بقيت واضحة منذ اللحظة الأولى.


التعديلات الدستورية قد تم تمريرها، ومبارك يستعدّ لفترة حكم جديدة، بدأت في القراءة بشكل أوسع، غير مهتم بالسياسة بشكل خاص، وغير مهتم بالمدوّنات السياسية تلك تقريباً، محاولاً البحث فقط عن حكايات وسطها. أثناء هذا تعرّفت على مدوّنة عمرو عزت، بدا عمرو منخرطاً بشدّة فيما يفعله، واثقاً تماماً مما يستطيع فعله، عرفت أنه ترك الهندسة، وبدأ في دراسة الفلسفة، يكتب عن كل شيء، السياسة وغيرها، وحتى السياسة التي كان يكتبها كانت شخصية تماماً، كان هذا خطاباً مختلفاً اتعامل معه للمرة الأولى، السياسة بإعتبارها مساحة للعب، ليست مكاناً للديباجات القومية المملة، ولا للشعارات السياسية البلهاء بشكل عام، فقط مساحة لفعل كل ما نستطيع فعله، محاولين رفع السقف بإستمرار، لا لشيء إلا لكي نتسلّى أكثر.. اختلاف هذا الخطاب يكمن بالتحديد في كونه لا يقول "من أجل غد أفضل" كما يقول المنخرطون في السياسة، السياسيون تماماً، لكنه يقول أن "علينا ان نوفّر مساحة أكبر للعب، وأن نقاتل من يمنعنا عن ذلك". وكان هذا مناسباً لي تماماً، حتى الآن، أنا غير مهتم بالسياسة أصلاً، فقط أريد مكاناً آمنا، ومناسباً للعب.
بهذا يصبح النزول في مظاهرة بها عشر أفراد أمراً لطيفاً، العشر أفراد لن يجيئوا بغد أفضل، لكنهم سيربكون المستنقع الراكد هذا، وينعمون بساعات من اللعب في الشارع.

(6)

على عكس مدوّنات ذائعة الصيت مثل مدونة (حواديت) لرحاب بسّام، كنت شديد التعلّق بمدونة دينا الهوّاري، ما كانت تكتبه رحاب كان على درجة كبيرة من اللماحة والذكاء بالفعل، لكن مدونة دينا الهواري كانت تملك شيئاً مختلفاً، درجة الشجن هذه التي يمكن التقاطها في تدويناتها، كلامها عن أصدقائها، ونصوصها التي لا يوجد فيها تغيّرات درامية كبيرة ملفتة للنظر، على العكس تماماً، كانت تكتب بلا بداية ولا نهاية تقريباً، وتكتب عن كل شيء بنفس الطريقة، وبشكل عادي، كل هذا كان يقول الكثير عن روح طيّبة يصدر عنها كل هذا. انسانة معيّنة لها عالم ربما لا يكون ملوّناً ولا مثيراً للإهتمام من النظرة الأولى، لكنه هاديء تماماً، ولطيف، كل هذه كانت أشياءاً تجعلني في انتظار ما تكتبه دائماً. 

عندما قرأت آخر نص وضعته في المدوّنه، تذكّرت مباشرة تدوينة أخرى كتبتها هي منذ فترة طويلة، عدت لأرشيف المدوّنة ووجدت أنا تتحدث عن نفس الشيء، بفارق أربع سنوات: "أنها تشعر أنها قد كبرت"! كانت تعتبر نفسها كبرت منذ أربع سنوات..
هي الآن أم، لها طفل عنده 3 سنوات، وهو مازال يكبر، لم اعرفها يوماً بشكل شخصي، لكني كنت سعيداً بشكل غير مفهوم لأنها بخير، ولأنها تتقدم في حياتها بهذا الشكل..

(7)

تحوّل السايبر إلى محل عطور، إسمه (حامل المسك) مقتبس من حديث نبوي شريف كتب نصّه بالكامل على لوحة كرتون أمام المحل. غلق المحل تدور حوله الكثير من الأساطير التي لا أعرف مدى صحتها تماماً، لكن هناك كلام عن أن الرجل ضبط الفتاة في المطبخ مع فتى في ثالثة ثانوي، أصيب بلوثة وهو يرى أشنع كوابيسه تتحقق أمام عينيه، وحطّم بنفسه كل الأجهزة التي كان يرى أنها السبب في فتح عيون المراهقين ذوي الشوارب الخضراء على المسخرة.
صاحب المحل(الذي طالت ذقنه بشكل ملحوظ) كلما رآني أعبر أمامه في الطريق، لابد أن يوقفني، يسلّم علي، ويخبرني أنني كنت ولداً محترماً، وعمري ما فتحت حاجات عيب، وها أنا ذا في كلّية محترمة.. رأيته في يوم 28 يناير بعد الصلاة ونحن نتحرّك في أول مظاهرة أخرج فيها في حياتي، وقال لي أنني يجب علي العودة لأن هناك بهدلة ستحدث الآن، وأنني في كلية محترمة، قلت له : "ميتين أم الكليّة المحترمة، ارحم أهلي"
آخر مرّة رأيته فيها، قلت له أنني لم أكن مؤدبّاً تماماً يعني، كنت افتح مدوّنة إسمها (يا أخي أحه)، ابتسم بوّد وقال لي: "بس إنت كنت محترم، غيرك كان بيفتح سكس، الكلام المكتوب مش زي الفيلم برضة، يمكن عشان كدا بقيت بتنزل مظاهرات"

(8)

العب لعبة غريبة هذه الأيام، أتحدّث عن أبو الليل الذي لا أعرفه، اسأل محدّثي: " سمعت عن أبو الليل؟" وغالباً ما يسألني إن كنت أقصد فيلم كتكوت.. لكنني أحدّثه عن المدوّنات، وعن الفرصة العظيمة التي اتيحت لنا لقراءة شيء شديد الجمال والخفّة بعيداً عن أعين النصوص المترهلة المتناثرة، التي كانت تحاصرنا في كل مكان. بداية من الصحف، نهاية بنشرات الأخبار..
عرفت بعدها أن أبو الليل أصيب بالعمى، وتوقف عن الكتابة. لا أعرف عنه حالياً أي شيء ، لعله بخير، عليه السلام..





الثلاثاء، 29 مايو 2012

لماذا يجب على الواحد أن يتوقف عن قراءة الكتب المهمة


في النهاية، لن تبقى الا الاشياء التي فعلناها بلا نيّة مسبقة، دون تخطيط مبدئي أو تفكير فيما يجب أن تكون الأمور عليه، في النهاية سيبقى الارتباك الأبله المرتجف، والنظرات المختلسة، والمراقبة من بعيد، محاولة التفكير في شيء شديد الذكاء لقوله، ثم لوم النفس بعنف على الكلام الأخرق الذي ينتج كل مرة.

كل شيء بعد هذا، يتساوى بأي شيء آخر 

الثلاثاء، 17 أبريل 2012

يوميات الباطنة - متولي



عندما قام متولي من مكانه على الكرسي البلاستيك البنّي، وذهب إلى اللاب توب ليغير الأغنية، لم أعلق. حتى عندما اختار الأطلال، وسألني إن كنت أريد الاستماع إليها، رفعت رأسي عن الكتاب، وهززتها سريعاً، كنت أود أن أقول له، أن بامكانه اختيار أي أغنية يريد طالما سيصمت ويتوقف عن الحديث عنها، ويذاكر..

هنالك حكمة من اختيار أم كلثوم يا متولي، أعرف أنك تعرفها طالما لم تبتعد عن أم كلثوم في اختياراتك طوال الليلة، يستعينون على المسافات الطويلة بأم كلثوم عموماً، هي تناسب الرحلات بين المحافظات التي تستهلك أكثر من ساعة، الانتظار الطويل الممل الممتد، ومذاكرة الباطنة مثلاً. أثناء ولادتي يا متولي_لم أحك لك هذه الحكاية قبلاً_ استعان أبي بأم كلثوم، لم يستطع مقاومة القلق على الولادة المتعسرة لأبنه الأول، تلك التي كادت تودي بأمي، فترك المستشفى بما فيها، وذهب إلى السيارة الفيورا الصغيرة التي كان يملكها آنذاك، واستمع لشرائط أم كلثوم بالكامل في كاسيت العربة البائس..

لا بأس يا متولي، فلنستمع إلى الأطلال، أينعم أنت منعت عنّا عدّة أغاني مشرقة، وأنا شخصياً كنت في انتظار انت عمري، لكنك قاطعت رقّ الحبيب، لتسمع نحيب قلبك صادراً من حنجرتها، لكن لا بأس طالما ستتوقف عن الكلام عنها..

كنت أذاكر الملاريا، وأفكر أنّها حالة حزينة، فكّرت أن أقول هذه الملاحظة التي اعتقدت أنها ذكية، لكنني حين نظرت لوجهك الأصفر، قلت أنني سأنتظر حالة أخرى سعيدة أخبرك بها، هي نفس الفكرة يعني في النهاية، الفرق فقط في الشعور الذي ينتقل من الحالة.. يمكنني أن أخبرك الآن على كل حال أن الملاريا حالة حزينة يا متولي. يا الله.. حمّى تهدأ، لتبدأ من جديد في سلسلة ملعونة لا تنتهي، يشعر المريض بالبرد، ودرجة حرارته تتجاوز الأربعين، ثم يشعر بنار الله الموقدة بعد ساعتين، حيث يجب تصريف الحرارة هذه بشكل ما، وبعدها يا متولي، ينام متعباً، لتبدأ السلسلة هذه من جديد، وأما العلاج فيؤدي إلى هلاوس نفسية! قلّي هل هناك ما هو مثير للحزن أكثر من هذا؟

نعم.. هناك ما هو مثير للحزن أكثر ، ابتسم بشفقةٍ الآن، أعرف أن هناك ما هو أكثر..

منذ نصف ساعة بالظبط، وبينما تغني أم كلثوم شيئاً ما لا أذكره عن الأمل، نظر متولي للسقف طويلاً، وقال بحسرة: "المفروض مكونش هنا على فكرة".
المفروض ألا يكون أحد منّا هنا يا متولي في الحقيقة، المؤكد أننا كان يمكن أن نكون في كل مكان إلا هنا، نذاكر الباطنة يا متولي، كان يمكن أن أكون على شاطيء البحر، أبلل قدمّي بالماء المالح بينما تمشي فتاة جميلة بجواري، أو أمشي فقط دون أن يكون بجواري أحد، أو أتظاهر بالسباحة، بينما أكتفي بتحريك الماء من حولي، كان يمكن أن أمشي في مظاهرة أهتف فيها بسقوط واحد من أولاد الحرام الذين يتكاثرون ذاتياً، أو حتى أنام، أنام فقط.. أو اشاهد فيلم شجرة الحياة الذي أريد مشاهدته منذ سنة ونصف، هل هذا صعب؟ قل لي بصراحة يعني، هل هذا صعب؟
لكن المعضلة وجودية بالأساس، أنت هنا تفعل شيئاً ما، لأنك لست موجوداً في مكان مختلف تفعل شيئاً آخر. أنت تذاكر الباطنة وتترك الفتاة التي تحبّها تتزوج الآن، لأنك هنا، ولست هناك.

لم أقل لك أي شيء من هذا، لأن الوقت قد أزف، لا وقت للبكاء يابني، الامتحان بعد يومين، هناك ثلاثة كتب يجب انهاؤها في يومين، يوم ونصف بالتحديد، ونحن لم ننجز شيئاً منذ ساعات لأنك تستمر بالتحدث عنها يا متولي، منذ خمس دقائق مثلاً حين دقّت ساعتك الكاسيو الرقمية بنت الكلب، أن الساعة قد وصلت للسابعة، نظرت للسقف ثم قلت لنا في حزن: "زمانه بيأكّلها الجاتوه دلوقتي". وأكملت:" ويمكن يبوس راسها كمان"
لا أعرف ما الذي تريد الحياة أن تخبرنا به، حين تختار الفتاة التي تحبها، أن تتزوج قبل امتحانك بيومين، آسف، يوم ونصف.. لكنني على كل حال، لا أجد وقتاً والله يا متولي للبحث عن سبب يعني، البحث عن سبب سيستغرق وقتاً، والحالة الواحدة في الكتاب ، تستغرق حوالي ثلث ساعة، يعني هذا أن أمامنا حوالي 8 ساعات مستمرة بلا انقطاع، دخول الحمام يا متولي.. دخول الحمام يا مؤمن، أصبح الآن مشكلة، فما بالك بالبحث عن الحكمة وراء الأحداث..

على كل حال أنا لم أعلق بكلمة حتى بدأت أنت باستدعاء ابيات لنزار قباني، هذا مبالغ فيه يعني يا متولي، اعرف انك حزين، وانها تأكل الجاتوة من يد شخص غيرك، وربما كذلك يقبل رأسها، التي أصبح من حقّه وضع شفتيه عليها، بعد كتب الكتاب، ولكن ماذا تنتظر منّي حين اسمعك تعيد رأسك للوراء وتقول بشجن : "مابين امرأة ودّعتني، وامرأة سوف تأتي، أحبكِ أنتِ".. لهذا، لم أحتمل، فقاطعتك لأقول لك: "ارحم ميتين أبونا بقا يا متولي، وذاكر، الامتحان فاضل عليه أقل من 48 ساعة".. وانت سمعت الجملة، وحزنت.. أعرف هذا، لأنك صمتّ، ووضعت رأسك في كتابك ولم تنطق بكلمة طيلة بقية الجلسة..

لم اتبادل معك حديثاً آخر، خرجت إلى البلكونة، لاستريح قليلاً، وشعرت بالنمل يسري في قدمي وأنا أقف لاول مرة منذ فترة، وضعت كوب الشاي بجواري، واشعلت سيجارة، وبدأت أنظر للشارع في حكمة..

شعرت بالذنب مباشرة مع اول دفعة دخان خرجت من انفي، كان يجب أن أتركك تكمل القصيدة يا متولي، لم يكن عليّ مقاطعتك بهذا الشكل، أن أقول لك ارحم ميتين أبونا، لأن الوقت لم يعد يسمح بقصيدة بائسة، لكن ماذا أفعل؟ الامتحان بعد يومين، يوم ونصف بالظبط.

فكّرت أن الطب حزين بشكل عام، واننا نحارب طواحين الهواء، وكل هذه الأفكار التي قرأتها أنت وسمعتها ألف مرة في ألف مكان، وأنك طبيب جرّاح، قلوب الناس تداويها في الوقت الذي قلبك فيه مجروح جداً، وهذا سخيف أن ينطبق عليك أغنية لأبو وديع، لكن لا بأس يا متولي.. لا بأس..
ثم شعرت، فجأة، أن سرطان الشعب الهوائية مرض محترم.. أعني انه لا يأتي إلا حينما تشرب السجائر بمعدل ٍكثيف، كما أفعل الآن يعني، ليس حزيناً كملاريا تأتي بلدغة ناموسة تافهة، وتؤدي إلى حمّى لا معنى لها، ثم علاج يؤدي إلى أمراض نفسية مصاحبة، سرطان الرئة يضعك أمام اختيارين يعني، لو فعلت كذا، فانت في طريقك لكذا، ولم لم تفعل، فأنت لست على الطريق.. هذا جيد يا متولي. رغم كل شيء هذا جيد..
أريد أن أعيش أكثر يا متولي، رغم أن الحياة مؤلمة، ورغم أنك نموذج أمامي أراه يذاكر الباطنة بدلاً من وضع الجاتوه في فم حبيبته، وتقبيل جبهتها، إلا أني أريد أن أحياً أكثر_ولو قليلاً حتّى_ وحتى لو لم أقبل جبهة حبيبتي، أو أضع الجاتوة لها في فمها_وهذا شيء رخيص جداً يا متولي لكن لا بأس سنتغاضى ليكتمل المجاز _وأريد أن أشاهد فيلم شجرة الحياة. ولهذا، وبلا مقدمات والله، قررت أن ألقي بالسيجارة في الشارع المظلم أمامي، دون حتى أن أحتفظ منها بتذكار آخر نفس .. وشاهدتها تهبط بحرية ثم تتهشّم على الطريق لعدة قطع مضيئة..

في الشارع المظلم، الذي ألقيت فيه السيجارة، والذي أمشي فيه الآن عائداً إلى بيتي، لأنام ساعتين واستيقظ لأستكمل المذاكرة، فكرت أني كان يجب أن أقول لك قصيدة ما، وأن أقول لك أن قصيدة نزار جميلة..
لكن لا بأس يا متولي. لا بأس.. لا تحزن. في نهاية الأمر كل شيء سينتهي يا متولي والله، أنت ستفنى، وأنا كذلك، وكتب الباطنة، وهي، وجبينها الذي يتم تقبيله الآن، كلنا سنفنى، سنتلاشى، حتّى قطعة الجاتوة سيتم تدويرها لتستقر في النهاية كجزء من لحاء شجرة، وفيلم شجرة الحياة سينتهي أيضاً، إذا كانت البني آدمين بتموت يعني يا متولي..

كان يجب على الزمن أن يتوقف يا متولي، كان يجب عليه أن يتوقف لفترة، تحزن فيها كما تشاء، وتبكي، وتتوقف عن المذاكرة دون أن أقول لك ذاكر،  وتقول شعراً لنزار، و ننتظرك لتنتهي من بكائيتك، التي ستسمع فيها الأطلال ألف مرة، وأثناء ذلك تتوقف القطط عن الموت تحت عجلات السيارات المسرعة، لتربّت على كتفك، وأن تعتذر منك الفتاة حتى ترضى، وتسمح لها بالزواج. وتتوقف الملاريا عن اصابة الناس لفترة لأن هذا حزين يا متولي.


الأحد، 11 مارس 2012

إني آنست ناراً


لم أكن طفلاً لين المعشر بشكل عام، في بدايات محاولة أبويّ تعليمي الصلاة بشكل منتظم، والتي كنت أقاومها بشراسة، وجدت الفرصة لسؤال جدي لأمي، الذي كان أزهرياً متديناً بشكل مفرط، عن السبب الذي يجعل كل الناس واثقين فعلاً من وجود الله، في حين أن أحداً لم يره يوماً..
كنا جالسين في شرفة البيت، هو ترك الكرسي كالعادة، وفرش سجادة الصلاة التي احتفظ بها منذ أن صلّى عليها أثناء الحج، وأنا اتجول على قدمي ذهاباً وإياباً، اسند ظهري قليلاً على الحائط واقول له: سيدنا موسى شاف ربنا.. 
يهز رأسه نافياً، يكرر لي أن أحداً لم ير الله فعلاً. كان أشعرياً، وبالتالي كان يؤمن بأن الله لم يظهر لسيدنا محمد حتى في الاسراء والمعراج.. 
ابتسم، قال لي أن سيدنا موسى أراد أن يشاهد الله جهرة، فقال له الله أن ينظر إلى الجبل، إذا احتمل تجلي الله، فسيظهر لموسى، وهو ما لم يحدث، تحول الجبل إلى تراب، بمجرد التجلى، والتجلي أقل درجة من الظهور حتى.. لكن الجبل لم يحتمل هذا، أصبح هشاً تقدر نسمة هواء على تفتيته قال لي هذا بإشفاق، حتى في هذه السن، ميزت نبرة الاشفاق هذه. قلت له أنني لا أفهم أي شيء.. تنهد وقال لي أنه أيضاً لا يفهم شيئاً.. حتى التجلي لموسى، أو طمأنة قلب إبراهيم، كانا لأنبياء، ونحن لسنا إلا مجموعة من البشر الذين لا وزن لهم.. 

في محمد محمود، ووسط الضرب، كان هناك ذلك الرجل.. لا أعرف إن كان مجذوباً أم درويشاً، 
أم أنه أساساً خيل إلي من فرط رعبي،
 لحيته الطويلة كانت ترجح كفة مجاذيب السيدة، لكن ملابسه، وهيئته التي استطعت تمييزها وسط الظلام كانت تقول إنه واعٍ تماماً  .. لكنني رأيته وسط الشارع، والرصاص يشق الهواء أسرع من جملة " خد بالك" التي نملك ترفها حين نتعامل مع الغاز، وتصبح عبثاً حين يبدأ الرصاص، رأيته وسط كل هذا يسجد، وسط الشارع بالظبط، وأنا شعرت أنني أتحول لترابٍ وأنني سأتهاوي لو مستني الريح كجبل موسى.. 


الأربعاء، 1 فبراير 2012

ورقة بحثية عن مخاطر إدمان الغاز المسيّل للدموع



أيامها كان كل ما يسيطر على تفكيري أنني سأجد فريد محمولاً بهرجلة، ثم مُرمياً على الأرض، ثم مطلوباً مني أن أعاينه، وأنني سأقف متسمراً، دون ان أتحرك خطوة. الأفلام الهندية لا يجب السخرية منها أو اتهامها بعدم الواقعية أبداً. تعلمت أنني لن أسخر من أي قصة مهما بدت مفتعلة، لن أتهكم على حكاية الولد الذي توقف عن تدخين الحشيش، ثم ذهب للمسجد ليصلي فمات وعلى وجهه ابتسامة التقوى.

لم يكن فريد هو الأكثر رعونة بيننا، لم يكن الوحيد الذي اقلق عليه كذلك، لكنه كان الوحيد الذي يقلقني بتصرفاته أكثر من الجميع، كان الأكثر تحليقاً بدماغه، وبشكل لا يتضمن أي افتعال كمحاولة لتشجيع نفسه أو الآخرين، كان يفعل هذا لأنه يفعل هذا في المعتاد، وغالباً لم يكن يرى سبباً لتغيير عاداته. لم أسمع عن بني آدم بكامل عقله دخل الخطوط الأولى لأي مواجهة في الدنيا، وتحديداً تلك التي تتضمن الغاز المسيل للدموع، مشعلاً سيجارته ! هذا يفوق حتى التصور العادي عمّا يفعله الأبطال، ساعتها لم أستطع تحديد هل هو أبله فعلاً لا يعرف الخطر الذي يواجهه، أو صوفي مؤمن بشكل يتجاوز التصور؟ أو حتى مدمن أدرينالين، كل هذه الأشياء كانت تقلقني أكثر فأكثر.
لكنني الآن أعرف أنه كان يتعامل مع الأمر على أساس أنه سبب للانبساط، شيء يفعل به ما يقوله في كلامه المعتاد مع أصدقائه.

واقفين على العشب، في الحديقة التي تقع أمام صيدلية ملاك، عدت منذ لحظات من المستشفى، أستريح قليلاً، وأفكر في النوم بعض الوقت، وفريد يقوم من رقدته، منهياً فترة الراحة، عائداً إلى ولاد الوسخة، أتابع ببصري فريد وهو يعدّل هندامه بهدوء وتأن، كالمقبل على مقابلة مهمة، يخرج الآيس كاب من جيب الجاكيت، ويدخل يده فيه برويّة ليعدل من وضعه بعد تجعّده في الجيب، لا يجب أن يكون الآيس كاب مجعداً طبعاً، هذه من الأمور الأساسية، خاصة عندما تواجه رصاص الداخلية، بعدها يأتي دور الكوفية التي يرتديها بهدوء شديد، ويعدل وضعها لا على وجهه كما يفعل الثوار السيس، بل على رقبته ككمال الشنّاوي في شبابه، يقول بصوت متوسط:"تمام كدا"، يمد يده إلى جيب الجاكيت الآخر، ويخرج علبة سجائره المعدنية.. لا يسحب فريد سجائره من علبة سجائر ورق كما يفعل المدخنون السيس، بل يقوم بتفريغ السجائر من العلبة الورق إلى العلبة المعدنية التي يحملها معه دائماً، غالباً يفعل هذا لأنه لا يحب صورة الرئة المشوهة، أو القدم المصابة بالجذام على العلبة، فريد لا يخاف على صحته وإلا لكان توقف عن التدخين، لكنه لا يحب القرف غالباً، يشعل سيجارته الكولوباطرا، ويضيق عينيه وهو ينفث دخان أول نفس بإستمتاع، ثم يقول بهدوء للواقفين والجالسين :"مش يالّا بقا؟"

** ** ** **

لا أحد يعرف بالتحديد كيف أصبح فريد صديقاً له، وبشكل عام كذلك، لا يعتبر أحد أن فريد صديقه.. على العكس، فريد "صديقنا"، نعتبره ملكيّة عامة، لنا جميعاً. وهو الذي دخل في حياتنا كذلك، بالطريقة التي أرادها هو، مقرراً شكل الصداقة هذه منذ أول لحظة. في يونيو 2011 كنت غالباً أفكر في الباطنة، أو في شيء يتعلق بالباطنة، أو في شيء أتمنى فعله لولا الباطنة، عندما وجدت مستطيل المحادثة على الفيسبوك ينير بإسم فريد، الذي لم أكن أعرف عنه حينها إلا أن دماغه حلوة، وذوقه برنس، قال :"مساء الأنوار" ثم سألني عمّا أفعله مع جزارة البني آدمين التي أدرس فيها، ضحكت فعلاً من التعبير، ولم أندهش بعدها حين عرفت أن أمنية حياة فريد هي جثّة مصنوعة على يده.. ليس هذا مزاحاً بالمناسبة، وهذه هي المسخرة بالظبط..

في فترة ما، كان السؤال الأهم: "هو مين فريد إتش وهدان دا؟".. اذكر جيداً أن عدد من سألني هذا السؤال في يوم واحد تجاوز الخمسة.. نحن استيقظنا من النوم، فوجدنا فريد، الذي يتصرف بشكل يوحي به أنه يعرفنا جيداً، وأننا كذلك نعرفه بذات القدر. دون أن نشعر بكثير من الغرابة فيما نفعله، أو نفكر فيه مليّاً، أصبح فريد وسطنا بشكل طبيعي تماماً، كأن هذا مكانه الذي تركه قليلاً ثم عاد ليجده كما كان، كما يترك المرء حقيبته في مكان من المدرج، ليشتري كوباً من القهوة قبل المحاضرة، ثم يعود ليطالب بحقّه في هذا المكان، فنفسح له.

** ** ** **

ربما لأنه كان أكثر من يعرف ترددي ناحية ممارسة الطب بعد التخرج، قبل النوم، حوالي الساعة 12، استعداداً للاستيقاظ في الفجريّة، ميعاد ضرب الأمن المعتاد، سألني فريد وهو يعدل البطّانية الثانية التي فرشها على الأرض، "وإنت عامل إيه كدا"، هذه الجملة ربما تكون لازمة فريد الأهم، مفتاحه الأساسي لبدء أي حوار، قلت له أنني تمام، قال لي تمام، مدد على الأرض، وسند ظهره على النخلة، وانتظر حتى فعلت مثله ثم سألني بهدوء وكأنه يكمل حوارنا الممتدد، "وإنت ناوي تكمّل في طب بقا"..قال لي هذا وكأنه يقرر أمراً واقعاً، لا سؤالاً ينتظر مني إجابته، هززت رأسي بلا معنى وأنا ابتسم بخجل وكأنه من العيب أن يقول لي هذا قبل أن أحكي له هذا بنفسي.

يوماً ما، لا أذكر بالظبط المناسبة، قال لي فريد وهو يبتسم مليء شدقيه كالعادة :"ربّك بيسترها مع الخائفين"، وأنا اعتبرها الآن واحدة من أجمل الجمل التي سمعتها في حياتي، والتي لم أفهمها إلا متأخراً، الخوف عامل مهم نستحق به شفقة الله. لأننا خائفون مما سيحدث لنا، فغالباً لن يوقعه بنا، رحيمٌ فيما يتعلق بهذه النقطة.

** ** ** **

أناقش مع فريد مواضيعاً فلسفية ممتعة غالباً قرب الفجر، يكون كل الخلق قد ناموا، والفيس بوك ممل كالعادة، عندها أزوره أو يزورني، مصطحباً معي الـ"إصطباحة" التي سنتقاسمها، أو حين يعثر هو على بضاعة تستوجب القسمة على اتنين، لا يجب أن يمسك أي شخص السلك العريان وحيداً، لابد من نديم للشراب، فريد هو نديم شرابي في المعتاد، لا تكتمل الاصطباحة، إلا لو وصلت ليديه كذلك، أو السؤال الذي سيسأله واحد منا للآخر، بداية من سبب تعفّن جثث البني آدمين، وبم تفسر القانون الذي ينص أن كل اللبنانيّات مزز ثم تحطيم التساؤل نفسه: ومن قال أصلاً أن كل اللبنانيّات مزز؟ إشاعات.. والعودة للأصل: سيبك، المصرية تكسب، خفة الدم أعلى من السيليكون،  سؤال عابر ثابت ممتد منذ قرون عن السبب الذي يجعل من الصعب قتل مونيكا بيلوتشي لأنه حرام يكون حدّ جميل بهذا الشكل. ثم سؤال بعدها مباشرة عن جثّة مونيكا بيلوتشي بعدما تتعفن، هل ستتعفن؟ أقول له أن جثث الشهداء وحدها هي التي تحتفظ بحالتها، ثم ننتبه معاً لجملة : "الشهيدة مونيكا بيلوتشي"، فنضحك،

نقطع الكلام حين يقوم واحد منا لتدخين سيجارة في السريع، أو حين يجب النوم. لا أعتقد أنني قلت هذا لفريد يوماً ما، لكن فؤاد حدّاد يوماً ما كتب قصيدة من قصائد المسحراتي، غنّاها الشيخ سيّد مكاوي، صاحب البهججة كما نسميه، يقول فيها:"وأنا المغني، ولجل إنّي، يدوم شبابي، ينقص منابي، من السنابل، لكن مناب الأمل تمام".. يمكن للمرء أن يكتفي بهذا حين يتحدث عن فريد، لكنّه الغرور الذي يجعل المرء متوقعاً أنه سيقول المزيد في أي لحظة..

على أنني وأنا واقف في مستشفى/ مسجد عباد الرحمن، في فترات الراحة المختلسة وسط العكّ، تذكّرت أن الله سيسترها مع الخائفين، يكفي كل ما حدث، يكفي جداً،  لن يكون المُصاب غالباً أكبر من هذا، وابتسمت.




الاثنين، 16 يناير 2012

عن الأفيال الوردية

كانت هذه هي المرة الثالثة التي أهزه فيها ليستيقظ، في المرة الأولى ابتسمت محاولاً بعبثية تامة أن أعطف عليه وأنا ألمح وجهه المتململ، وعينه التي لم يفتحها أصلاً.. المرة الثانية تقلّب وكأنه في سرير بيتهم، لا نائماً في الشارع، فشعرت بالزهق، وأنني غير قادر على المواصلة هكذا، حتى لو أردت، والثالثة تمتم بكلام لم أفهمه، جعلني أغضب فعلاً، فأهزه بعنف أكبر وأقول له بصوتٍ عال: "اصحى بقا" .. 
وهو انتفض، بسرعة قام من مكانه ممسكاً العصا المعندية التي استلبها من جندي أمن مركزي منذ يوم وكان فخوراً بها كطفل يمسك لعبته الأثيرة.. ركض إلى خارج الحبل البائس الذي ارتجلناه كفاصل للمستشفى عن الشارع، ووقف صارخاً : "ها .. فين ؟ فين ؟ "
قلت له أن يهدأ، لا داع للفزع.. وكل شيء تمام، والأمن مستتب، وكل شيء تحت السيطرة، وأنا لازم أنام.. وهو لم يترك لي فرصة اكمال ما أقول، وهو يتحرك بهدوء إلى مكانه الذي تركه، اندس تحت الغطاء، محتضناً العصا، وأنا قلت بصوت مرتفع ليسمع :"الله يخرب بيت أمّك يا سيد"

** ** ** **

نظرت في ساعتي، كانت تقترب من الخامسة صباحاً، ومسألة ابقاء عيني مفتوحة بعد أربعة أيام من الاستيقاظ المتواصل، اصبحت مستحيلة..

بعين نصف مغمضة، بحثت عن الاستاذ عادل.. بدا من الصعب تمييزه وسط كل هذه الأجساد الممدة، والأغطية التي تخفي الوجوه في هذا الجو.. قدّرت مكانه، وهززته، استيقظ مباشرة بلا عناء، نظر لي بلا تركيز ثم قال : "خير يا دكتور؟"..قلت له أن سيد نائم حتى الآن، وأنا لم أنم منذ أربعة أيام، وسيد نام خمس ساعات ونحن قد اتفقنا أننا سنبدل الورديات كل خمس ساعات يا أستاذ عادل.. وأنني ربما أنام وأنا أكلمه أساساً..

بدا على وجهه الامتعاض، وقال لي : "مينفعش الكلام دا".. قلت له :"بالظبط".. فقال:"تهريج بجد.. المفروض هو نام كويس، كفاية عليه الخمس ساعات بتوعه، في غيره منمش.. وانت دكتور وملكش دعوة بالأمن أصلاً" ..هززت رأسي، بالظبط.. بالظبط.. هناك كذلك نقطة أنني لم أنم منذ أربعة أيام، وأنني بدأت أرى أفيالاً وردية وهذا خطر.. الرجل تحمّس، وبدأ صوته يعلو وهو يقول لي :"يعني الدينا هديت النهاردة ومحصلش ضرب لأول مرة من أربع أيام كلها طحن، وهو مستخسر فيك كام ساعة نوم" .. وأنا هززت رأسي بأسف، فهز رأسه بأسف، وقال لي :"طيب حاول معاه تاني" .. وبسرعة استلقى، ولفح الغطاء على وجهه، أنا نظرت له عاجزاً عن التفكير في رد مناسب لأني انشغلت بمحاولة ابقاء عيني مفتوحة بمجهود مستمر

** ** ** **

استيقظ سيد بعد أن لكمته في ذراعه.. صرخ، وقال لي :"أ*ا يا دكتور، ايه شغل العيال دا".. قلت له أنه استيقظ، مبروك، وأنني سأنام، الآن، وحالاً.. جررته من ذراعه، فوقف، واحتللت مكانه، شعرت أن عظام جسمي متكسرة فقط لمجرد أنني مددتها للمرة الأولى منذ أربعة أيام.. قلت لنفسي، أربعة أيام.. تذكر أنك واصلت لأربعة أيام.. قبل أن أفكر في شيء آخر، شعرت بجزء من الغطاء، يُسحب، وسيد مستلقٍ بجواري، وهو يقول لي: " سيب شوية من عندك يا دكتور".. وأنا نظرت له وقلت:"سيد.. على فكرة مش المفروض إننا ننام إحنا الإتنين، المفروض إنت تصحى دلوقتي وأنا انام".. وسيد نظر لي وكأنني اخرف وقال:" تفتكر لو أنا صحيت، وهمّا هجموا علينا، هحميكوا أنا يعني؟ " ثم اعتدل، وعلا صوته وقال :" والمصحف..شوف والمصحف؟ لو المشير بنفسه وقف فوق دماغي وأنا نايم، ما هصحى.. لا أنا ولا أنت هنعمل حاجة يا بني.. نام الله يكرمك".. وتركني ومدد.. بعدها بلحظات، علا صوت شخيره المنتظم..

وأنا نظرت لسيد، هرشت في رأسي قليلاً، وقلت له بصوت واضح :" الله يحرقك يا سيد" ثم شددت الغطاء على رأسي، ونمت..


الاثنين، 26 سبتمبر 2011

حسن الأسمر ليس في الكتب



في سن التاسعة، وبعد أن قمت بواحدة من أكبر الكوارث التي يمكن تخيلها في تاريخ طفولة أي كائن بشري، وبعد غضبة أسطورية من أبي تليق بكبير آلهة الأولميب، تسللت جدتي إلى الحجرة التي لجأت إليها بعد نهاية العاصفة.. القاعدة تنص على أن الجدات حكيمات إلا المريضات النفسيات منهن، جدتي كانت سليمة العقل حتى لحظة وفاتها، سليمة العقل أكثر من اللازم ربما..
كنت على سريري، ولم أكن أبكي، وهي عادة سأصطحبها معي فيما بعد، جلست بجواري وقالت لي انها ستقول لي ما يجب أن"أضعه حلقة في أذني".. أخذت نفساً عميقاً ثم قالت لي "قبل ما تعمل حاجة".. استدارت لي، ورفعت سبابتها في وجهي وهي تكرر :" أي حاجة "، ثم وهي تنظر في عيني هذه المرة: " أي أي أي حاجة .. شوف اذا كانت تستحق بلاويها ولا لأ"

في سن التاسعة، لم يكن ما فعلته، يستحق البلاوي التي تبعته..
كانت هذه طريقة في غاية الذكاء لرؤية الأمور، تجعل المرء يرى الأمور بحجمها الطبيعي، وتجعله يرى نفسه بحجمها الطبيعي والأهم يدرك جيداً عواقب ما يفعل، قبل الفعل نفسه..

** ** ** ** 

كنت طفلاً شديد الانطواء، انعزلت بعد فترة من الشقاوة المجنونة، تحديداً بعد التغريبة الأولى تجاة دولة من دول الخليج النفطية، واكتشفت أن هناك شيئاً ممتازاً يفعله الناس حين لا يجدون شيئاً آخر يفعلونه: القراءة، القراءة، والمزيد والمزيد والمزيد من القراءة، مللت سريعاً من برامج التلفزيون المحدودة في ذاك الوقت، وتزامن هذا مع اكتشافي المُدهش لنبيل فاروق، الذي مللته سريعاً هو الآخر حين اكتشفت أنه يكرر حبكاته بتناحة غير طبيعية، بعد 500 عدد تقريباً قررت ألا اقرأ لهذا البصمجي مرة أخرى، بغض النظر عن تعداد الكتب التي قرأتها، كنت قد قرأت كثيراً جداً جداً، وربما قررت حينها أنني أحكم بني آدم على وجه الكرة الأرضية، الأمر الذي دعا أبي لاطلاق لقب :"سقراط" عليّ دون عناء كبير، كان هذا هو نفس الوقت تقريباً حين سألني خالي بسخرية عما أقرؤه بالظبط، كنت جالساً باسترخاء وبين يديّ كتاب اقرؤه، كنت في مصر، الأجازة السنوية التي كنت أقضيها كاملة في البيت كطفل لا يحب الآخرين، لم أكن قد التقطت سخرية خالي من كل شيء، نبرته التي تقارب العبثية لم تكن بعد ضمن المفردات التي أضعها في اعتباري وأنا أتعامل معه، لهذا كانت سخريته بالنسبة لي أمراً ممقوتاً وبشدة.. صعبة الرد عليها لأنها شديدة الذكاء، وتضايقني بشدّة، لأنني كنت متخلفاً لأتعامل معها بجدّية مفرطة، كانت تمثّل شيئاً مربكاً بالنسبة لطفلٍ يعاني من متاعب في التواصل.

قلت لخالي أنني اقرأ كتاباً ما، فسألني أنه يعرف أنني اقرأ كتاباً ما، هو يسألني عن ماهية الكتاب نفسه.. لم أرد، فقال لي : "الأستاذ حسن الأسمر عندك؟" ..
لم أكن أعرف من هو الأستاذ حسن الأسمر بالظبط، عقدت حاجبي، وسألته من هو الأستاذ حسن الأسمر، فرسم على وجهه أفظع علامات الدهشة، وسألني وهو يهز رأسه: "إنت بجد.. بجد.. متعرفش الأستاذ حسن الأسمر؟".. أذكر جيداً القشعريرة التي انتابتني، اللعنة! .. أنا لا أعرف حسن الأسمر، الألعن: يبدو أنه مهم بشدّة لأعرفه، ويبدو عدم معرفته مدهشاً لهذه الدرجة.. قلت له أنني لا أعرف الأستاذ حسن الأسمر، بخجل قلت له أنني لا أعرفه، فرد علي باستهجان: "أمال بتقرا إيه في الكتب اللي معاك دي؟"..أشحت بنظري، فاستمر هو:"يابني إنت بتقرا كل الكتب، وسايب أهم كتاب" شعرت بالعار.. أنا بالظبط اقرأ كل مالا يهم قراءته. 

لم أستطع أن اسأل عن حسن الأسمر، لم أكن لأحتمل نظرة السخرية تلك مرة أخرى، كان الشعور قاسياً جداً واستمر معي لأيام، أنا اقرأ كل هذا، ولا أعرف حرفاً عن شيء رأيت في نظرة خالي عنه كل شيء. 

تركني خالي وحيداً اتخبّط، ولم أسمح لكرامتي بأن تتهشم مرة أخرى بسؤالي لأي شخص.. وقفت على حافة العلم، ونظرت لكل ما أعرفه، ووجدته ناقصاً.. 

في مكتبة دار المعارف بالأسكندرية، دخلت، ومباشرة، ذهبت إلى المسئول لأسأله السؤال الذي ادخرته بفخر للحظة مناسبة، وجمعت كل ما يمكن جمعه من أموال لتتويجه، سألته: "لو سمحت حضرتك، عندك كتاب الأستاذ حسن الأسمر؟".. الرجل نظر لي وقال لي غير قادر على الفهم:" نعم؟".. كررت بثبات:"كتاب الأستاذ حسن الأسمر.." الرجل هز رأسه تحسراً في الغالب على حال الأطفال قليلي التربية، وقال لي وهو يشيح بوجهه عنّي: "يلّا يا بني من هنا.." لم أفهم ما يحدث فسألته:" أنا معايا فلوس والله، وهشتري الكتاب".. بدا في صوت الرجل نفاذ الصبر وهو يقول :" يلّا يا بني من هنا بدل ما أضربك".. لم أفهم ما الذي يحدث بالظبط، فكرت أن الكتاب مهم لدرجة أنه لا يصلح لطفل.. خرجت من المكان مكسور الجناح، بعدها توقفت عن البحث.

انتهت المأساة الأغريقية بعدها بأربع سنوات، جالساً بهدوء اقرأ كتاباً ما ليوسف السباعي، الذي بدا مناسباً جداً لمرحلة المراهقة بمسدساتها وخيولها، وفتياتها المبهورات بالأبطال، والراقصات المغرمين بالشباب الوطني المتحمس، كنت اقرأ تاركاً التلفزيون كخلفية لطيفة،  برنامج السهرة في الغالب على القناة الثانية، حين قالت المذيعة، أننا الآن على موعد مع حسن الأسمر، وكتاب حياتي.. وأنا وقع قلبي في قدمي، لم تقل أنّها أغنية حتى، بخل العالم عليّ بهذه التحية الأخيرة، قالت أننا على موعد مع حسن الأسمر، وكتاب حياتي، هكذا بالظبط، تساءلت حتى عن السبب الذي يدعوهم لوضع برنامج الأستاذ حسن الأسمر، وسط برنامج هلس كهذا.. رفعت رأسي ببطء، وأنا أحس بثقل كل عضلة في رقبتي، إلى التلفزيون، الذي أظلم للحظات، ثم بدأ يعرض الأغنية التي سأشاهدها لأول مرة في حياتي. أهم أغنية شاهدتها في حياتي.. 



الجمعة، 23 سبتمبر 2011

طعم الماء



كل يومين ثلاثة، غالباً بعد منتصف الليل، وفي الوقت الذي أفعل فيه الأشياء الطبيعية التي يفعلها البشر بعد منتصف الليل، اقرأ مثلاً، أشاهد فيلماً ما، أذاكر شيئاً في كتاب يفترض أن أذاكر فيه، أو حتّى أحدّق في السقف، هوايتي الأصيلة، يحدث أن أشعر فجأة بعطش حارق، "فجأة" أعني بها: على حين غِرّة، على غفلة، دون اشارات مسبقة.

تقول الكتب أن الناس يشعرون بالعطش على مراحل، لا يشعر الإنسان أنه يريد أن يشرب لتراً من الماء إلا لو كان في صحراء الربع الخالي مثلاً، لكن الشعور بالعطش، غالباً ما يأتي على مراحل، تدريجياً، الرغبة في التبول كذلك. 
يعرف الجسم أنه يريد الشرب عبر عملية معقدة، فيها خرف كثير عن الهرمونات ومنسوب الضغط الأسموزي وخلافه، بالتدريج ينبّه الجسم صاحبه أن هناك نقصاً في الماء، بالتدريج وبشكل متصاعد، ثم  يصل في النهاية للاحتجاج، العطش.

أنا لا أشعر بأي من هذا، فقط أعرف شعوراً واحداً وهو العطش لاغير، أمضي أياماً بلا شرب ماءٍ، و فجأة أشعر بأنني أختنق.. الشوك في حلقي يضغط بلا هوادة على الجوانب، مجرد الكلام يصبح أمراً غير قابل للفهم. وعيني تحرقني بشكل غير مفهوم، في المرّات التي يحدث لي هذا، وأكون في المحاضرة أو أي مكان آخر يفترض أن استأذن قبل تركه، تكون المأساة، لأنني لا أفعل.. أقوم فعلاً من مكاني، وأخرج من الباب بكل هدوء، محاولاً الحفاظ على الجزء الباقي من كرامتي، وأجري بعدها بحثاً عن الماء لأشربه.. الماء وليس شيئاً آخر لا يروي، المشروبات الغازية تجعلني أكره حياتي في هذه اللحظات. كل هذه الفقاقيع والسكر والأحماض.

لكن الجيد في الأمر، ما يجعلني لا أكره ما يحدث هذا تماماً، أننيغالباً الوحيد على ظهر الكوكب، الذي يعرف جيداً أن للماء طعماً، أن له رائحة جميلة كذلك، لا يشعر بها إلا العطشان، طعمه يملأ فمي في هذه اللحظات التي أشربه فيها وأنا أكاد أموت من العطش.. بعد أن أشرب لأول مرة، ويغمر الماء حلقي، أنتظر قليلاً ثم أشرب ثانية، لا يمكن للنشوة أن تحصل على تعريف أدق. أشعر أنني سعيد. في هذه اللحظات، أملك الدنيا بحذافيرها.

الجمعة، 16 سبتمبر 2011

لا أحد يقرأ موبي ديك

أريد فقط صباح الجمعة.. قبل الصلاة، في التاسعة صباحاً مثلاً، وقت اللهاث للحاق بالمواعيد الرسمية، يكون العالم خاملاً، هادئاً، كسولاً كقطٍ يلعق فراءه تحت الشمس.. 
في هذا الوقت تحديداً، كل شيء يصبح ممكناً.. لكن يوم السبت.. غداً سأحل كل المشاكل، واحل مشاكل أصدقائي أيضاَ لو تبقى وقت، ساتغلب على كل ما يعيق طريقي، وأذاكر، أشاهد الأفلام المهمة التي أريد مشاهدتها، واقرأ الكتب الضخمة التي ترقد في المكتبة يعلوها التراب، سأقرا موبي ديك، حتى لو كان كتاباً مملاً، سأنهيه في يومين. سأصير شخصاً أفضل، يوم السبت إن شاء الله..
أريد فقط فرصة للبدء من جديد، فما بين يديّ الآن، خَرِبٌ تماماً ولا جدوى منه.

الخميس، 15 سبتمبر 2011

اليد اليمنى، والقدم اليسرى


في الرابعة فجراً، اليوم، كنت جالساً على حافة النافذة، أشرب كوب قهوة سكّرها زائد، ومعها سيجارة أحاول قدر الإمكان ألا أنهيها بسرعة، لأنها الوحيدة.. نجحت مؤخراً في تقليص العدد، واصبحت اكتفي بواحدةٍ ادخنها باستمتاع شديد، وقلق بالغ من انتهاءها.. نافذة البيت في الطابق السادس، قدمي اليمنى داخل البيت، واليسرى معلقة في الفراغ.. كل فترة، غالباً مع كل نفضةٍ للرماد، انظر إلى الشارع، واذكر نفسي بالجملة ذاتها: المسافة بين قدمي اليسرى، وبين أسفلت الشارع كبيرة جداً. مع الاعتياد، توقفت عن الخوف، اصبح الأمر لطيفاً حتى، تحولت قدمي اليسرى بمثابة مزحة غير مفهومة إلا لي، الشيء الوحيد من جسدي الذي يقترب من الأرض ، الأرض يعني أسفلت الشارع، يعني الأرض الحقيقية، لا أرض البيت الأسمنتية البائسة.
 منذ ساعة تقريباً، كنت اقرأ في مجلة علمية ما، عن السيدة العجوز التي قامت بانشاء المحمية الأولى من نوعها لإنقاذ صغار الفيلة التي تعرض ذووها للصيد، بهدف الحصول على لحمهم، أو العاج، أو تعرضت هي نفسها للاعتداء لأن هناك بعض المهووسين أولاد الحرام يعتقدون في قدرات خارقة للحوم الفيلة حديثة الولادة..
كانت العجوز تحكي عن انثى الفيل الصغيرة : "عايشة".. التي انقذتها من الموت، ثم رعتها لعدة شهور، واضطرت لتركها لحضورحفل زفاف ابنتها.. ماتت "عايشة".. تحكي السيدة بمرارة، لأنها تعلقت كثيراً بها.. تحولت إلى الأم الثانية، وحين تركتها، ماتت من الحزن. عادت بعد شهرين لتجد الصغيرة قد ماتت. تقول بمرارة: " لا يجب أن يتعلق أحد بشيء ما لهذه الدرجة". قرأت الجملة، ودمعت عيناي.
تذكرت الجملة وأنا في منتصف السيجارة، وانتبهت حين لسعت أصابعي. افلتّها وشاهدت سقوطها الحر بحسرة حتى ارتطمت بالأرض.. الاتفاق اتفاق.. سيجارة واحدة في اليوم.
حاولت الانتحار وأنا ابلغ من العمر خمسة عشر عاماً.. لا استطيع تحديد ما اذا كانت محاولة جادة، أم مجرد تصريف هرمونات زائدة. لكني اتذكر شعوري واقفاً على قدميّ على ارتفاع 7 طوابق، ومصمماً على التنفيذ، حين خطرت ببالي أكثر الافكار بديهية في الدنيا، أنني لن أكون موجوداً لأعرف بالظبط ما الذي يشعر به المنتحر.. كان هذا مفزعاً. لم استطع فهم كيف يكون الشخص غير موجود. وكيف يكون غير موجود بارادته الحرة، هذا سخيف بشكل لا يصدق. لهذا قررت العدول، وفي طريقي للنزول، اختلت قدماي، وامسكت بالعمود الذي على يميني بكل قوتي، لدرجة أنني بعد أن تمالك انفاسي كنت غير قادر على اجبار يدي اليمنى على تركه. كانت لها ارادتها المستقلة وقررت التصرف بمعزل عن المعتوة الذي سيذهب بهم إلى داهية. ظللت هكذا وقتاً لا اذكره، حتى قررت يدي اليمنى أن تخفف قبضتها أخيراً. 
قررت أن الاتفاق لا يسري على نصف السيجارة، الاتفاق كان واحدة كاملة، نزلت بحذر، وشعرت بالبهجة حين لامست قدماي الأرض بسلام، ذهبت إلى المكتب، اشعلت سيجارة أخرى، وصارحت نفسي أنني خائف. 

الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

عبر البحر، وإلى الشاطيء الآخر


كنت أكتب في مدونة أخرى منذ حوالي ست سنوات، وجدت حتى صعوبة في تذكر اسمها منذ قليل، لكن ما اذكره جيداً كان العاطفية المفرطة والواضحة في نفس الوقت في كل ما أكتبه..
قبل هذه الأيام المجيدة، وكمراهق عبيط، كسرت قلب فتاةٍ تصغرني بعام، النظرة المتفهمة لما حدث، تقول أن هذا لم يكن متعمّداً، لكن أشياء كهذه تحدث.. كما يحدث أن تسقط شرفة سليمة تماماً على مارٍ عابر بريء في شارع ما، فيموت. سواء أحببنا هذا أم كرهناه، أشياء كهذه تحدث طيلة الوقت. لا يجب على صاحب العمارة أن يشعر بالذنب تجاه الميت، سليم.. قل هذا لصاحب العمارة وهو يتأمل الجثة أمامه.
لم أتفهم هذا.. لم أستطع نزع فكرة أنني شخص دنيء من رأسي.. كنت أشعر بالذنب، بأن الله خلقني ليعذب بي عباده الطيبين، البؤساء، أنني الاختبار الذي يضعهم أمامه، وأنني الشرير الذي لم ينقذهم منه، ووضعهم في تجربة مباشرة معه.
لم تكن المدونة القديمة هذه وسيلة لأي شيء، سوى تنفيس غاضب عمّا يحدث لي طيلة اليوم، أخرج من الكلية، لأدخل إلى السايبر الذي يتوسط المسافة إلى البيت، وأكتب كلاماً يبدو لي لا بأس به، عن الكلية، عمّا أفعله هناك، عن الموسيقى التي تعجبني، والأفلام التى شاهدتها، عن الكتب، أكتب كلاماً أحاول فيه أن أقترب من الأدب كما أتصوره، صورة نجيب محفوظ الشهيرة تلح على خيالي، مبتسماً بفتور، ابسامته الأليفة تلك، ممسكاً بعصاه، والنظّارة الطبية تحجب نصف وجهه.
لم احتمل الشعور بالذنب، كان هاجساً مستمراً، بأنني دمّرت حياة انسان بشكل لا يقبل الاصلاح.. هذا الكلام الذي أعرف أنه خرف كبير الآن.. الآن للأسف وليس وقتها.. منذ كنت طفلاً وانا أتمنى أن تكون لديّ القدرة على معرفة ما سيكون. الغيب سيظل هو الهاجس الأهم بالنسبة لي. المهم أنني وكوسيلة للتخلص من هذا العبء، قررت أن أكتب في تدوينة ما نصّه أنني أعتذر.. وأنني أعرف إن امكانية قراءتها لهذا الكلام صفر كبير، لكنني على كل حالٍ، آسف، والله آسف.. كان هذا استدعاءاً للعبة القديمة كنت ألعبها مع أولاد عمتي على بحر اسكندرية، يكتب كلّ منا رسالة ما، ويضعها في زجاجة مياة غازية مسدودة بقطعة فلّين ويلقيها في البحر.. وباعتباري صاحب نظرة مبعدية، كنت أكتب ثلاث نسخ، على ثلاث ورقات، كل واحدة منها بلغة، العربية والانجليزية والايطالية التي يجيدها زوج عمّتي، والذي كنت انظر له باعتباره ساحراً..على اعتبار أن احتمال وصول الرسالة لإيطاليا ليس بعيداً جداً..
كانت في بلد أخرى في هذه الفترة، وكنت في مصر، وكانت كل المراسلات بيننا قد انقطعت، ولا يوجد بيننا أصدقاء مشتركون، ولم أكن أكتب بأسمي الحقيقي أصلاً وقتها، ولم تكن هناك وسيلة اتصال واحدة ممكنة. ورغم ذلك، حدث أنها عثرت على المدونة بصدفة ما، دوناً عن قرابة بليون صفحة ذات محتويً عربي على الانترنت، قرأت نصوصاً تعرفها، كانت قد قرأتها قديماً، ثم قرأت الاعتذار الموجه لها. 
وأنا الذي وقت كبرت قليلاً، كنت اعتبر نفسي طفلاً سخيفاً، حين أتوقع أن الرسالة قد تعبر البحر المتوسط لتصل ليد إيطالية على الشاطيء الآخر ..


الأحد، 28 أغسطس 2011

آخـر الخَـط




اسمع منّي فلا وقت، باق من الزمن أربع شهور ليكتمل الحول.. وأذكّرِك وأذكّر نفسي بالجملة المناسبة التي تتسق مع ختام مدهش كهذا : 
كل شيء سيكون على ما يرام ! قل الجملة لها قدر ما يستوجب القول ولا تملّ، قلها حتى تمّل وزِد فتتجسد أمامك وأمامها. 
لا تعبثوا بجروح قديمةٍ بمطواةٍ صدئة، لا يتصلن أحد بمن تركه، ولا يعتذرن أحد عمّا فعل، الاعتذار عبث. وإن كان لابد، فتذكرٌ وابتسامٌ طيب، وذِكر اسمٍ في دعاء ينفع. وادعوا لأمهاتكم وآبائكم مهما كان الألم المصاحب. 
وليمسكن الأحبة منكم بأيدي بعضهم على كوبري قصر النيل وإخوته الأشقاء من الكباري، دون خوف ولو لمرة. ومن استطاع منكم تقبيل فتاته، فليفعل. ومن لم يستطع، فليفعل. قبلة أولى كأنها أخيرة تجفلون منها كشهقات التنفس المؤلمة الأولى، والوقوع الأول عن دراجة أولاد عمّاتكم على مدخل الشارع. 
وليعلم من يعرفني منكم، أني سأكون جالساً معها على قهوة في الطريق، ليس فيها أحد إلا صدى صوتينا، نشرب الشاي المحلّى بالنعناع، ونضحك على خلق الله. 
واقرأوا فاتحة الكتاب ونجمه ومريمته ، وصلّوا صلاة مودِّع

الجمعة، 12 أغسطس 2011

الثالثة فجراً في الشارع

يعني مثلاً أن نكون واقفين على السلم، ننهي بقايا الحديث المقطوع بسبب اتصال أبي ، وطلبه مني العودة.. واقول بلا خجل أن أبي لا يزال حتى هذه اللحظة التي أبلغ فيها من العمر ما يربو على ربع قرن، لازال ينتظر عودتي كل ليلة لينام.. حتى لو كانت الساعة كما هي الآن، تتجاوز الثالثة فجراً.. 
فتضحك أنت وتقول لي أن اباك لا يسمح لك حتى هذه اللحظة التي تبلغ فيها ما يربو على الربع قرن، بالعودة في الثالثة فجراً أصلاً، وانت انهيت دراستك، وبدأت في العمل، فأضحك، وأقول أنني في الخارج حتى الثالثة فجراً لأني قلت أنني احتاج نسخة من كتابٍ للكلية على فلاشة.. وبعد الانتهاء من الدعابات التقليدية المكررة المعتادة _والمضحكة رغم كل هذا_ عن "نهين" و "نهون"، تدخل انت للبيت، لتحضر لي فلاشة، لا أفهم في البداية، فتقول أنها احتياطي لسؤال أبي عن الفلاشة، واستعيد مباشرة أجواء ثالثة اعدادي ودليل المذاكرة، قبل الخروج من البيت، وأضحك.. 
أشياء كهذه يا فريد.. أشياء كهذه .. 

المتابعون