الأحد، 31 يوليو 2011

كمّ مُهمل



اليوم الثلاثاء، انتظر الخميس، لأنام وأصحو في السبت قاتلاً الجمعة قبل تكوّنه، أصبحت محترفاً في تمرير الأيام، بالظبط كما يفعل مرضى الكلى بحصواتهم، بلا ألم، بلا عناء، أتبول يومي كل صباح بهدوء..

أوقن بأن كل ما نفعله.. كل هذا الصخب والعنف والقسوة والعجرفة والسخرية والتصارع والغباء، وكل الكلام، والشعر، والنثر، الغزل والتعفف واللمس المختلس، وكل المشاجرات المسائية والصباحية، وكل تمهيدات الشجار مهما اختلفت اشكالها، كل الخرف الذي يصبه سائق التاكسي، والجنون الذي أراه على وجوه الناس في الشارع، نفس جنون المراكز التجارية، والنهم في المطاعم، الابتسام المبالغ فيه حين التعرف على شخص جديد.. كل هذا فقط لنثبت للآخرين، أننا أحياء، مثلهم، ربما أكثر منهم.

المفاجأة ستكون في الغالب، أنهم موتى، غالباً أكثر منّا. وأن الأرض خالية إلا من رمل ناعم يغطّيها.

الاثنين، 25 يوليو 2011

الناس عمرها ما كانت مبسوطة

أعتقد_ والله أعلم_ أن البشرية فقدت ثلاثة أرباع تراثها، في اللحظة التي اكتشف فيها شخص يجلس أمام جهاز كومبيوتر، أن بإمكانه كتابة حرف هاءٍ متكرر، دون أن يضحك .

الاثنين، 18 يوليو 2011

إنهم يذاكرون الباطنة في التحرير

أيام التحرير الأولى، واحد صاحبي قرر الاعتصام في الميدان بمصاحبة مئتي وخمسين جنيهاً، يأكل منهم، ولحاف ثقيل، وكتاب باطنة.. لم نكن نعرف ميعاد الامتحان، حين اضطربت الأمور، وهو لم يكن قد فتح كتاباً بعد، وشعر بالفزع من فكرة أن تفشل الثورة، ويقرر "النظام" عودة الحياة لطبيعتها في اليوم التالي، فيدخل على امتحان لا يعرف عنه كلمة، لهذا قرر امساك العصا من المنتصف.. 

أيام التحرير الثانية، قابلت صديقاً لي بالصدفة، وعيني وقعت على كتاب الباطنة المألوف، رديء الطباعة، فاقع اللون والمحتوى، سألته عمّا يفعله بالكتاب هنا، فقال انه لم يستذكر كلمة لامتحان الأسبوع القادم، وأن هذا هو الحل الوحيد، سألته هل ذاكر إذن، فضحك وقال إن الأمل في وجه الكريم.. ما بين هتاف وهتاف، يجلس في خيمة ويقرأ كلمتين.  

دعك من التعريفات الأكاديمية، أن أنظر لأي كتاب باطنة الآن فأبتسم دون ارادة، رغماً عن الحقيقة العلمية التي تنص على أنني أكره حتى كل علامة ترقيم فيه، فهذا هو تعريف المجاز .


السبت، 16 يوليو 2011

خلال ثلاثة أيام، حلمت نفس الحلم ثلاث مرات. أكون ماشياً وحدي على كوبري مبهم التفاصيل، ولا أرى أمامي إلا شخصاً يقترب بنفس سرعتي في المشي، عندما يصبح بمحاذاتي يدير وجهه للناحية الأخرى، فلا أميز من ملامحه أي شيء، بعد تجاوزه بخطوات، أشعر باليد التي تدفعني من الخلف ناحية السور المنخفض، تسقط نظارتي وأفقد التمييز للحظة، وأشعر باليد ترفعني عن السور الذي أشم رائحة صدئه، أحاول التشبث بأي شيء، لكنني أفشل. استيقظ قبل الوصول للماء بلحظات.

الأحد، 10 يوليو 2011

أين يمكن أن يذهب الناس في يوم مشمس كهذا؟

(1)
قبل نزولي للقاهرة، حظيت بفرصة شجار مع والديّ حول جدوى نزولي ميدان التحرير. حجتمها كانت بسيطة : مادمنا نعرف جيداً، وبشكل يقيني، أن مظاهرة اليوم ستكون مليونية. وأن العدد حسب التقديرات سيكون الأكبر منذ فترة لا بأس بها، فما هي فائدة نزولي بالظبط؟
الكارثة_فكرت بفزع في الفترات المقتطعة من الصراخ المستمر_ أن هذا يبدو صحيحاً فعلاً.

(2)
مجلة ميكي مجلة غير بلهاء، وفي الوقت الذي يشتريها الأهل بهدف "تسلية" أطفالهم، فإنها تلعب ألعاباً عجيبة كذلك في أدمغتهم. ليس موضوع الغزو الثقافي فقط(وهو موجود) لكنه كذلك تقديم أفكار شديدة التعقيد بشكل شديد التبسيط..
خذ عندك هذه القصة مثلاً: يقرر بطوط، في يوم مشمس صافي، والأولاد الثلاثة(سوسو- لولو- توتو) أن يذهبوا إلى البحر. يعدّون كل شيء، لكن واحد من الأولاد يتساءل بصوت عالٍ قبل الخروج من البيت: ولكن معنى أننا قررنا الذهاب، لأن الظروف (الجو وخلافه) مناسبة، أن الناس كلها ستقرر مثلنا النزول للبحر في هذا اليوم، لهذا فالشاطيء سيكون مزدحماً جداً، ولن يمكننا اللعب كما يجب، وبالتالي فليس اليوم هو اليوم المناسب. وهو كلام منطقي، الثاني يقول أنه لو فكر كل الناس بهذا الشكل، فإنهم كلهم سيجلسون في بيوتهم مقررين عدم الذهاب خوفاً من "الزحام" وبالتالي سيكون الشاطيء خالياً تماماً.. يقول الثالث : ولكن لو فكّر كل الناس أن كل الناس(الآخرين) سيفكرون بهذا الشكل، فالناس(الآخرون) سيصلون لنتيجة أن الشاطيء سيكون خالياً تماما، وبالتالي سيذهبون.. وبذلك سيكون الشاطيء مزدحماً !  يقول بطوط، ولكن لو .. إلخ ..
في نهاية القصة (التي تستغرق صفحة واحدة، نجد الشاطيء خالياً تماماً ما عدا سبّاح الانقاذ الذي يتساءل : "أين يمكن أن يذهب الناس في يوم مشمس جميل كهذا؟" . الحقيقة أن الناس كلهم لم يذهبوا إلى أي مكان وجلسوا في بيوتهم يفكرون دون أن يصلوا لنتيجة .. الناس لم يذهبوا لأنهم لم يعرفوا بالظبط ما الذي سيفعله "الآخرون".

(3)
لم أكن قادراً على ترك المظاهرة، كنا حشداً في حدود الثلاثة آلاف، متجهين نحو التحرير عن طريق ميدان طلعت حرب، الألتراس غالباً هو من يقودها، الطبلة، الهتافات الملحنة على ايقاع الطبلة عملاقة الحجم، والصافرة حول رقبة أغلبهم، تيشيرتات رياضية، وبعضهم عاري الجذع حتى،  وبالطبع سب الداخلية ما بين هتاف وهتاف. اشتباكات الشرطة معهم يوم الخميس ألقت بظلالها بشكل واضح.. الداخلية فقط، لأنه حين بدأ يقول "حكومة وسخة" اعترض الناس ورفضوا الهتاف.. صمم على رأيه في البداية، ثم لان أخيراً، وبدأ الهتاف ضد المشير..
 كان يجب أن أترك المظاهرة لأنضم لرفقة السفر حتى نعود، تناقشت معهم قبل الوصول للقاهرة، في إذا كنا سنعتصم أم لا، قررنا عدم الاعتصام حفاظاً على القلة القليلة الباقية من احتمالات نجاحنا في الامتحان بعد أيام..
كانوا ينتظرونني في ميدان طلعت حرب. هذه هي المرة الثانية التي سأترك فيها المظاهرة..انفصلت عنهم عند الوصول للميدان لأنضم لمجموعة من أصدقائي كانوا هنا منذ الصباح.. وهم نفس المجموعة التي شاركتني المظاهرة منذ بدايتها.
وقفت معهم للحظات، وهم كانوا ينظرون بحسرة للمظاهرة، سألني وهو يعرف الإجابة: انت كنت في المظاهرة دي؟ .. هززت رأسي، الحقيقة انه رآني أخرج من وسطها..  لم أعرف بالظبط ماذا حدث، لكني وجدتهم فجأة وسط المظاهرة بعد أن انهيت كلامي. لحقت بهم وأنا أضحك..
ابتعدت عنهم.. وأنا أمسح بعيني المتظاهرين، حتى وصلت للوجوه المألوفة المحمرّة المسمرّة المتعبة، التي لم ترحمها شمس اليوم الرهيبة، ضحكوا حين رأوني، تساءلوا عن سبب عودتي.. شرحت فهزوا رؤوسهم .
المرة الثالثة كانت حينما نادت رفقة السفر للتحرك في شارع لا أعرف اسمه، الحقيقة أنني كنت أشعر بحسرة غير طبيعية وأنا أودعهم للمرة الثانية.. عدت لرفقة السفر الذين اشاروا إلى شارع ما سنمشي فيه..  لأكتشف أنه موازٍ للشارع الذي تسير فيه المظاهرة بالفعل، أؤكد على هذا، ثم أعود للركض من جديد لأدخل وسط الناس، يندهش أصدقائي الذين ودعتهم منذ لحظات، احاول ان اشرح لهم بخجل، ثم نؤخذ بالهتافات الجديدة..

(4)
هناك فكرة فلسفية مملة تبدأ كالآتي:
في ذقنك، شعرة واحدة.. هل يمكن أن نعتبر هذه الشعرة لحية؟ لا .. إذن سنضيف شعرة ثانية.. هل نعتبر اثنان لحية؟ لا.. ثالثة؟ لا.. سنستمر في هذا حتى نصل مثلاً لعدد 50 ألف شعرة.. الخمسون ألف شعرة هو عدد مقبول للحية..
كان الفارق بين شعرة واحدة واثنتين هو شعرة واحدة.. والفارق بين الخمسين ألف شعرة والربعمائة تسعة وتسعون هو شعرة واحدة كذلك.. في الحالة الأولى لم تكن الشعرة الواحدة مؤثرة كفاية حتى نغير حكمنا، في الحالة الثانية كذلك، الشعرة الواحدة ليست هي العنصر المؤثر..
تتوقف النظرية هنا.
لكن الحقيقة أن لولا الشعرة الثانية، ثم الثالثة، والرابعة، كلّ على حدة، وكل واحدة بشكل مستقل، لما كان من الممكن أن نصل للخمسين ألف.. هل يبدو هذا بديهياً؟ غالباً.. لكن  البديهيات هي دائماً ما ينقص لكي يكتمل الأمر.

(5)
أثناء توجة المظاهرة لميدان التحرير، كنت أبحث_بدرجة من حزن_عن طريقة أذهب بها لميدان طلعت حرب، حيث مكان التجمع تمهيداً للعودة، المظاهرة كانت مستمرة في السير، حين قيل لي أنني سأنتظر حتى تصل المظاهرة لشارع عمودي معين على شارع طلعت حرب المؤدي للميدان، وبهذا أنفصل عن المظاهرة، وأتحرك لأصل لطلعت حرب.. عندما وصلنا للشارع إياه.. ودعتهم لأتحرك.. كانت هذه هي المرة الأولى.. كنت حزيناً، ودعوت الله أن يتوقفوا قليلاً عن السير لأهتف معهم لوقت أطول. هنا  لاحظت أن المظاهرة توقفت تماماً.. لحظات ثم قرروا تغيير مسارهم، وبدلاً من اكمال الشارع، سيتوجهون عن طريق ميدان طلعت حرب عن طريق الشارع الذي كنت سأسير فيه.. وبدلاً من السير وحدي سار معي ثلاثة آلاف متظاهر (عدا ثمان منهم) لا يعرفون غالباً أن هذا هو طريقي أصلاً..
نظرت لهم بذهول، ثم ضحكت.. لا يمكن لأحد أن يقول شيئاً يعلق به على أشياء كهذه.. مثلاً حين نظرت للسماء، كان القمر نصف دائرة بالظبط، نصف دائرة بالتمام والكمال، وكأنها محسوبة بالورقة والقلم والمسطرة. كان هذا جميلاً ببساطة، لا ضرورة لأن يكون له معنى، لكنه جميل، وربما كان هذا معناه. كذلك، من الجميل أن المرء حين يدوس على قدم من أمامه لأربع أو خمس مرات متكررة لدواعي الزحام، ينظر صاحب الحذاء للخلف، ثم يضحك حين أضحك، ثم يسلم علي ويربت على كتفي هكذا بلا مناسبة .هذا الموقف من بديهيات الثورة، قاله ألف قائل، وشرحه لي بانبهار ألف واحد، لكني وأنا أحكيه لأخي بعد عودتي، واثقاً من أنه يعرف ما أحكي عنه، وسمع عنه بالضرورة، كنت أشعر كالذي شهد الأسطورة وحده، الناس هناك تدوس على أقدام الآخرين، ثم تعتذر فيُقبل اعتذارهم . 

(6)
تتكرر في القرآن اشارات إلى أن الحساب لن يكون اجمالياً، وأن كل انسان محاسب على ما يفعله هو، هو بالتحديد، هو فقط .. "وإن كل آتيه يوم القيامة فرداً"، تقول بوضوح أن الحساب لن يكون أبداً على أساس المجتمع أو المجموع البشري مهما كان توصيفه..
يقول غسان مطر في وصاياه_وصيته الوحيدة لو أردنا الدقة، لأنه رفض قول المزيد_ أن على الواحد أن يعمل الصح.. وهذا ليس بالضرورة سهلاً، لكنه في كل الأحوال جميل. 

(7) 
في طريق العودة، حيث كنت أحاول مقاومة النوم، و التغلب على الصهد الذي أشعر به. فكرت أن كل هذا سينتهي يوماً، بأي شكل قٌدر له الانتهاء عليه، وأن هذا هو الامر الواضح لا لبس فيه. عندما كنت في العاشرة تقريباً، سألت جدي، المُقعد، الذي كف بصره، ولم يعد يسمع إلا بالصراخ جوار اذنه، والذي رغم ذلك كان يصر على شرح منهج العربي بالكامل قبل بدء الدراسة، مضيعاً عليّ وقتاً ممتعاً من اللعب، سألته عن فائدة كل هذه المذاكرة، مادمنا كلنا سنموت في نهاية الأمر.. وهو سؤال يليق بصبيّ ذي فلسفة وجودية لا بأس بها، على كل حال ما أتذكره جيداً انه صمت، ثم ضحك، ثم قال : أدينا بننبسط.

المتابعون