الاثنين، 26 سبتمبر 2011

حسن الأسمر ليس في الكتب



في سن التاسعة، وبعد أن قمت بواحدة من أكبر الكوارث التي يمكن تخيلها في تاريخ طفولة أي كائن بشري، وبعد غضبة أسطورية من أبي تليق بكبير آلهة الأولميب، تسللت جدتي إلى الحجرة التي لجأت إليها بعد نهاية العاصفة.. القاعدة تنص على أن الجدات حكيمات إلا المريضات النفسيات منهن، جدتي كانت سليمة العقل حتى لحظة وفاتها، سليمة العقل أكثر من اللازم ربما..
كنت على سريري، ولم أكن أبكي، وهي عادة سأصطحبها معي فيما بعد، جلست بجواري وقالت لي انها ستقول لي ما يجب أن"أضعه حلقة في أذني".. أخذت نفساً عميقاً ثم قالت لي "قبل ما تعمل حاجة".. استدارت لي، ورفعت سبابتها في وجهي وهي تكرر :" أي حاجة "، ثم وهي تنظر في عيني هذه المرة: " أي أي أي حاجة .. شوف اذا كانت تستحق بلاويها ولا لأ"

في سن التاسعة، لم يكن ما فعلته، يستحق البلاوي التي تبعته..
كانت هذه طريقة في غاية الذكاء لرؤية الأمور، تجعل المرء يرى الأمور بحجمها الطبيعي، وتجعله يرى نفسه بحجمها الطبيعي والأهم يدرك جيداً عواقب ما يفعل، قبل الفعل نفسه..

** ** ** ** 

كنت طفلاً شديد الانطواء، انعزلت بعد فترة من الشقاوة المجنونة، تحديداً بعد التغريبة الأولى تجاة دولة من دول الخليج النفطية، واكتشفت أن هناك شيئاً ممتازاً يفعله الناس حين لا يجدون شيئاً آخر يفعلونه: القراءة، القراءة، والمزيد والمزيد والمزيد من القراءة، مللت سريعاً من برامج التلفزيون المحدودة في ذاك الوقت، وتزامن هذا مع اكتشافي المُدهش لنبيل فاروق، الذي مللته سريعاً هو الآخر حين اكتشفت أنه يكرر حبكاته بتناحة غير طبيعية، بعد 500 عدد تقريباً قررت ألا اقرأ لهذا البصمجي مرة أخرى، بغض النظر عن تعداد الكتب التي قرأتها، كنت قد قرأت كثيراً جداً جداً، وربما قررت حينها أنني أحكم بني آدم على وجه الكرة الأرضية، الأمر الذي دعا أبي لاطلاق لقب :"سقراط" عليّ دون عناء كبير، كان هذا هو نفس الوقت تقريباً حين سألني خالي بسخرية عما أقرؤه بالظبط، كنت جالساً باسترخاء وبين يديّ كتاب اقرؤه، كنت في مصر، الأجازة السنوية التي كنت أقضيها كاملة في البيت كطفل لا يحب الآخرين، لم أكن قد التقطت سخرية خالي من كل شيء، نبرته التي تقارب العبثية لم تكن بعد ضمن المفردات التي أضعها في اعتباري وأنا أتعامل معه، لهذا كانت سخريته بالنسبة لي أمراً ممقوتاً وبشدة.. صعبة الرد عليها لأنها شديدة الذكاء، وتضايقني بشدّة، لأنني كنت متخلفاً لأتعامل معها بجدّية مفرطة، كانت تمثّل شيئاً مربكاً بالنسبة لطفلٍ يعاني من متاعب في التواصل.

قلت لخالي أنني اقرأ كتاباً ما، فسألني أنه يعرف أنني اقرأ كتاباً ما، هو يسألني عن ماهية الكتاب نفسه.. لم أرد، فقال لي : "الأستاذ حسن الأسمر عندك؟" ..
لم أكن أعرف من هو الأستاذ حسن الأسمر بالظبط، عقدت حاجبي، وسألته من هو الأستاذ حسن الأسمر، فرسم على وجهه أفظع علامات الدهشة، وسألني وهو يهز رأسه: "إنت بجد.. بجد.. متعرفش الأستاذ حسن الأسمر؟".. أذكر جيداً القشعريرة التي انتابتني، اللعنة! .. أنا لا أعرف حسن الأسمر، الألعن: يبدو أنه مهم بشدّة لأعرفه، ويبدو عدم معرفته مدهشاً لهذه الدرجة.. قلت له أنني لا أعرف الأستاذ حسن الأسمر، بخجل قلت له أنني لا أعرفه، فرد علي باستهجان: "أمال بتقرا إيه في الكتب اللي معاك دي؟"..أشحت بنظري، فاستمر هو:"يابني إنت بتقرا كل الكتب، وسايب أهم كتاب" شعرت بالعار.. أنا بالظبط اقرأ كل مالا يهم قراءته. 

لم أستطع أن اسأل عن حسن الأسمر، لم أكن لأحتمل نظرة السخرية تلك مرة أخرى، كان الشعور قاسياً جداً واستمر معي لأيام، أنا اقرأ كل هذا، ولا أعرف حرفاً عن شيء رأيت في نظرة خالي عنه كل شيء. 

تركني خالي وحيداً اتخبّط، ولم أسمح لكرامتي بأن تتهشم مرة أخرى بسؤالي لأي شخص.. وقفت على حافة العلم، ونظرت لكل ما أعرفه، ووجدته ناقصاً.. 

في مكتبة دار المعارف بالأسكندرية، دخلت، ومباشرة، ذهبت إلى المسئول لأسأله السؤال الذي ادخرته بفخر للحظة مناسبة، وجمعت كل ما يمكن جمعه من أموال لتتويجه، سألته: "لو سمحت حضرتك، عندك كتاب الأستاذ حسن الأسمر؟".. الرجل نظر لي وقال لي غير قادر على الفهم:" نعم؟".. كررت بثبات:"كتاب الأستاذ حسن الأسمر.." الرجل هز رأسه تحسراً في الغالب على حال الأطفال قليلي التربية، وقال لي وهو يشيح بوجهه عنّي: "يلّا يا بني من هنا.." لم أفهم ما يحدث فسألته:" أنا معايا فلوس والله، وهشتري الكتاب".. بدا في صوت الرجل نفاذ الصبر وهو يقول :" يلّا يا بني من هنا بدل ما أضربك".. لم أفهم ما الذي يحدث بالظبط، فكرت أن الكتاب مهم لدرجة أنه لا يصلح لطفل.. خرجت من المكان مكسور الجناح، بعدها توقفت عن البحث.

انتهت المأساة الأغريقية بعدها بأربع سنوات، جالساً بهدوء اقرأ كتاباً ما ليوسف السباعي، الذي بدا مناسباً جداً لمرحلة المراهقة بمسدساتها وخيولها، وفتياتها المبهورات بالأبطال، والراقصات المغرمين بالشباب الوطني المتحمس، كنت اقرأ تاركاً التلفزيون كخلفية لطيفة،  برنامج السهرة في الغالب على القناة الثانية، حين قالت المذيعة، أننا الآن على موعد مع حسن الأسمر، وكتاب حياتي.. وأنا وقع قلبي في قدمي، لم تقل أنّها أغنية حتى، بخل العالم عليّ بهذه التحية الأخيرة، قالت أننا على موعد مع حسن الأسمر، وكتاب حياتي، هكذا بالظبط، تساءلت حتى عن السبب الذي يدعوهم لوضع برنامج الأستاذ حسن الأسمر، وسط برنامج هلس كهذا.. رفعت رأسي ببطء، وأنا أحس بثقل كل عضلة في رقبتي، إلى التلفزيون، الذي أظلم للحظات، ثم بدأ يعرض الأغنية التي سأشاهدها لأول مرة في حياتي. أهم أغنية شاهدتها في حياتي.. 



الجمعة، 23 سبتمبر 2011

طعم الماء



كل يومين ثلاثة، غالباً بعد منتصف الليل، وفي الوقت الذي أفعل فيه الأشياء الطبيعية التي يفعلها البشر بعد منتصف الليل، اقرأ مثلاً، أشاهد فيلماً ما، أذاكر شيئاً في كتاب يفترض أن أذاكر فيه، أو حتّى أحدّق في السقف، هوايتي الأصيلة، يحدث أن أشعر فجأة بعطش حارق، "فجأة" أعني بها: على حين غِرّة، على غفلة، دون اشارات مسبقة.

تقول الكتب أن الناس يشعرون بالعطش على مراحل، لا يشعر الإنسان أنه يريد أن يشرب لتراً من الماء إلا لو كان في صحراء الربع الخالي مثلاً، لكن الشعور بالعطش، غالباً ما يأتي على مراحل، تدريجياً، الرغبة في التبول كذلك. 
يعرف الجسم أنه يريد الشرب عبر عملية معقدة، فيها خرف كثير عن الهرمونات ومنسوب الضغط الأسموزي وخلافه، بالتدريج ينبّه الجسم صاحبه أن هناك نقصاً في الماء، بالتدريج وبشكل متصاعد، ثم  يصل في النهاية للاحتجاج، العطش.

أنا لا أشعر بأي من هذا، فقط أعرف شعوراً واحداً وهو العطش لاغير، أمضي أياماً بلا شرب ماءٍ، و فجأة أشعر بأنني أختنق.. الشوك في حلقي يضغط بلا هوادة على الجوانب، مجرد الكلام يصبح أمراً غير قابل للفهم. وعيني تحرقني بشكل غير مفهوم، في المرّات التي يحدث لي هذا، وأكون في المحاضرة أو أي مكان آخر يفترض أن استأذن قبل تركه، تكون المأساة، لأنني لا أفعل.. أقوم فعلاً من مكاني، وأخرج من الباب بكل هدوء، محاولاً الحفاظ على الجزء الباقي من كرامتي، وأجري بعدها بحثاً عن الماء لأشربه.. الماء وليس شيئاً آخر لا يروي، المشروبات الغازية تجعلني أكره حياتي في هذه اللحظات. كل هذه الفقاقيع والسكر والأحماض.

لكن الجيد في الأمر، ما يجعلني لا أكره ما يحدث هذا تماماً، أننيغالباً الوحيد على ظهر الكوكب، الذي يعرف جيداً أن للماء طعماً، أن له رائحة جميلة كذلك، لا يشعر بها إلا العطشان، طعمه يملأ فمي في هذه اللحظات التي أشربه فيها وأنا أكاد أموت من العطش.. بعد أن أشرب لأول مرة، ويغمر الماء حلقي، أنتظر قليلاً ثم أشرب ثانية، لا يمكن للنشوة أن تحصل على تعريف أدق. أشعر أنني سعيد. في هذه اللحظات، أملك الدنيا بحذافيرها.

الجمعة، 16 سبتمبر 2011

لا أحد يقرأ موبي ديك

أريد فقط صباح الجمعة.. قبل الصلاة، في التاسعة صباحاً مثلاً، وقت اللهاث للحاق بالمواعيد الرسمية، يكون العالم خاملاً، هادئاً، كسولاً كقطٍ يلعق فراءه تحت الشمس.. 
في هذا الوقت تحديداً، كل شيء يصبح ممكناً.. لكن يوم السبت.. غداً سأحل كل المشاكل، واحل مشاكل أصدقائي أيضاَ لو تبقى وقت، ساتغلب على كل ما يعيق طريقي، وأذاكر، أشاهد الأفلام المهمة التي أريد مشاهدتها، واقرأ الكتب الضخمة التي ترقد في المكتبة يعلوها التراب، سأقرا موبي ديك، حتى لو كان كتاباً مملاً، سأنهيه في يومين. سأصير شخصاً أفضل، يوم السبت إن شاء الله..
أريد فقط فرصة للبدء من جديد، فما بين يديّ الآن، خَرِبٌ تماماً ولا جدوى منه.

الخميس، 15 سبتمبر 2011

اليد اليمنى، والقدم اليسرى


في الرابعة فجراً، اليوم، كنت جالساً على حافة النافذة، أشرب كوب قهوة سكّرها زائد، ومعها سيجارة أحاول قدر الإمكان ألا أنهيها بسرعة، لأنها الوحيدة.. نجحت مؤخراً في تقليص العدد، واصبحت اكتفي بواحدةٍ ادخنها باستمتاع شديد، وقلق بالغ من انتهاءها.. نافذة البيت في الطابق السادس، قدمي اليمنى داخل البيت، واليسرى معلقة في الفراغ.. كل فترة، غالباً مع كل نفضةٍ للرماد، انظر إلى الشارع، واذكر نفسي بالجملة ذاتها: المسافة بين قدمي اليسرى، وبين أسفلت الشارع كبيرة جداً. مع الاعتياد، توقفت عن الخوف، اصبح الأمر لطيفاً حتى، تحولت قدمي اليسرى بمثابة مزحة غير مفهومة إلا لي، الشيء الوحيد من جسدي الذي يقترب من الأرض ، الأرض يعني أسفلت الشارع، يعني الأرض الحقيقية، لا أرض البيت الأسمنتية البائسة.
 منذ ساعة تقريباً، كنت اقرأ في مجلة علمية ما، عن السيدة العجوز التي قامت بانشاء المحمية الأولى من نوعها لإنقاذ صغار الفيلة التي تعرض ذووها للصيد، بهدف الحصول على لحمهم، أو العاج، أو تعرضت هي نفسها للاعتداء لأن هناك بعض المهووسين أولاد الحرام يعتقدون في قدرات خارقة للحوم الفيلة حديثة الولادة..
كانت العجوز تحكي عن انثى الفيل الصغيرة : "عايشة".. التي انقذتها من الموت، ثم رعتها لعدة شهور، واضطرت لتركها لحضورحفل زفاف ابنتها.. ماتت "عايشة".. تحكي السيدة بمرارة، لأنها تعلقت كثيراً بها.. تحولت إلى الأم الثانية، وحين تركتها، ماتت من الحزن. عادت بعد شهرين لتجد الصغيرة قد ماتت. تقول بمرارة: " لا يجب أن يتعلق أحد بشيء ما لهذه الدرجة". قرأت الجملة، ودمعت عيناي.
تذكرت الجملة وأنا في منتصف السيجارة، وانتبهت حين لسعت أصابعي. افلتّها وشاهدت سقوطها الحر بحسرة حتى ارتطمت بالأرض.. الاتفاق اتفاق.. سيجارة واحدة في اليوم.
حاولت الانتحار وأنا ابلغ من العمر خمسة عشر عاماً.. لا استطيع تحديد ما اذا كانت محاولة جادة، أم مجرد تصريف هرمونات زائدة. لكني اتذكر شعوري واقفاً على قدميّ على ارتفاع 7 طوابق، ومصمماً على التنفيذ، حين خطرت ببالي أكثر الافكار بديهية في الدنيا، أنني لن أكون موجوداً لأعرف بالظبط ما الذي يشعر به المنتحر.. كان هذا مفزعاً. لم استطع فهم كيف يكون الشخص غير موجود. وكيف يكون غير موجود بارادته الحرة، هذا سخيف بشكل لا يصدق. لهذا قررت العدول، وفي طريقي للنزول، اختلت قدماي، وامسكت بالعمود الذي على يميني بكل قوتي، لدرجة أنني بعد أن تمالك انفاسي كنت غير قادر على اجبار يدي اليمنى على تركه. كانت لها ارادتها المستقلة وقررت التصرف بمعزل عن المعتوة الذي سيذهب بهم إلى داهية. ظللت هكذا وقتاً لا اذكره، حتى قررت يدي اليمنى أن تخفف قبضتها أخيراً. 
قررت أن الاتفاق لا يسري على نصف السيجارة، الاتفاق كان واحدة كاملة، نزلت بحذر، وشعرت بالبهجة حين لامست قدماي الأرض بسلام، ذهبت إلى المكتب، اشعلت سيجارة أخرى، وصارحت نفسي أنني خائف. 

الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

عبر البحر، وإلى الشاطيء الآخر


كنت أكتب في مدونة أخرى منذ حوالي ست سنوات، وجدت حتى صعوبة في تذكر اسمها منذ قليل، لكن ما اذكره جيداً كان العاطفية المفرطة والواضحة في نفس الوقت في كل ما أكتبه..
قبل هذه الأيام المجيدة، وكمراهق عبيط، كسرت قلب فتاةٍ تصغرني بعام، النظرة المتفهمة لما حدث، تقول أن هذا لم يكن متعمّداً، لكن أشياء كهذه تحدث.. كما يحدث أن تسقط شرفة سليمة تماماً على مارٍ عابر بريء في شارع ما، فيموت. سواء أحببنا هذا أم كرهناه، أشياء كهذه تحدث طيلة الوقت. لا يجب على صاحب العمارة أن يشعر بالذنب تجاه الميت، سليم.. قل هذا لصاحب العمارة وهو يتأمل الجثة أمامه.
لم أتفهم هذا.. لم أستطع نزع فكرة أنني شخص دنيء من رأسي.. كنت أشعر بالذنب، بأن الله خلقني ليعذب بي عباده الطيبين، البؤساء، أنني الاختبار الذي يضعهم أمامه، وأنني الشرير الذي لم ينقذهم منه، ووضعهم في تجربة مباشرة معه.
لم تكن المدونة القديمة هذه وسيلة لأي شيء، سوى تنفيس غاضب عمّا يحدث لي طيلة اليوم، أخرج من الكلية، لأدخل إلى السايبر الذي يتوسط المسافة إلى البيت، وأكتب كلاماً يبدو لي لا بأس به، عن الكلية، عمّا أفعله هناك، عن الموسيقى التي تعجبني، والأفلام التى شاهدتها، عن الكتب، أكتب كلاماً أحاول فيه أن أقترب من الأدب كما أتصوره، صورة نجيب محفوظ الشهيرة تلح على خيالي، مبتسماً بفتور، ابسامته الأليفة تلك، ممسكاً بعصاه، والنظّارة الطبية تحجب نصف وجهه.
لم احتمل الشعور بالذنب، كان هاجساً مستمراً، بأنني دمّرت حياة انسان بشكل لا يقبل الاصلاح.. هذا الكلام الذي أعرف أنه خرف كبير الآن.. الآن للأسف وليس وقتها.. منذ كنت طفلاً وانا أتمنى أن تكون لديّ القدرة على معرفة ما سيكون. الغيب سيظل هو الهاجس الأهم بالنسبة لي. المهم أنني وكوسيلة للتخلص من هذا العبء، قررت أن أكتب في تدوينة ما نصّه أنني أعتذر.. وأنني أعرف إن امكانية قراءتها لهذا الكلام صفر كبير، لكنني على كل حالٍ، آسف، والله آسف.. كان هذا استدعاءاً للعبة القديمة كنت ألعبها مع أولاد عمتي على بحر اسكندرية، يكتب كلّ منا رسالة ما، ويضعها في زجاجة مياة غازية مسدودة بقطعة فلّين ويلقيها في البحر.. وباعتباري صاحب نظرة مبعدية، كنت أكتب ثلاث نسخ، على ثلاث ورقات، كل واحدة منها بلغة، العربية والانجليزية والايطالية التي يجيدها زوج عمّتي، والذي كنت انظر له باعتباره ساحراً..على اعتبار أن احتمال وصول الرسالة لإيطاليا ليس بعيداً جداً..
كانت في بلد أخرى في هذه الفترة، وكنت في مصر، وكانت كل المراسلات بيننا قد انقطعت، ولا يوجد بيننا أصدقاء مشتركون، ولم أكن أكتب بأسمي الحقيقي أصلاً وقتها، ولم تكن هناك وسيلة اتصال واحدة ممكنة. ورغم ذلك، حدث أنها عثرت على المدونة بصدفة ما، دوناً عن قرابة بليون صفحة ذات محتويً عربي على الانترنت، قرأت نصوصاً تعرفها، كانت قد قرأتها قديماً، ثم قرأت الاعتذار الموجه لها. 
وأنا الذي وقت كبرت قليلاً، كنت اعتبر نفسي طفلاً سخيفاً، حين أتوقع أن الرسالة قد تعبر البحر المتوسط لتصل ليد إيطالية على الشاطيء الآخر ..


الأحد، 28 أغسطس 2011

آخـر الخَـط




اسمع منّي فلا وقت، باق من الزمن أربع شهور ليكتمل الحول.. وأذكّرِك وأذكّر نفسي بالجملة المناسبة التي تتسق مع ختام مدهش كهذا : 
كل شيء سيكون على ما يرام ! قل الجملة لها قدر ما يستوجب القول ولا تملّ، قلها حتى تمّل وزِد فتتجسد أمامك وأمامها. 
لا تعبثوا بجروح قديمةٍ بمطواةٍ صدئة، لا يتصلن أحد بمن تركه، ولا يعتذرن أحد عمّا فعل، الاعتذار عبث. وإن كان لابد، فتذكرٌ وابتسامٌ طيب، وذِكر اسمٍ في دعاء ينفع. وادعوا لأمهاتكم وآبائكم مهما كان الألم المصاحب. 
وليمسكن الأحبة منكم بأيدي بعضهم على كوبري قصر النيل وإخوته الأشقاء من الكباري، دون خوف ولو لمرة. ومن استطاع منكم تقبيل فتاته، فليفعل. ومن لم يستطع، فليفعل. قبلة أولى كأنها أخيرة تجفلون منها كشهقات التنفس المؤلمة الأولى، والوقوع الأول عن دراجة أولاد عمّاتكم على مدخل الشارع. 
وليعلم من يعرفني منكم، أني سأكون جالساً معها على قهوة في الطريق، ليس فيها أحد إلا صدى صوتينا، نشرب الشاي المحلّى بالنعناع، ونضحك على خلق الله. 
واقرأوا فاتحة الكتاب ونجمه ومريمته ، وصلّوا صلاة مودِّع

الجمعة، 12 أغسطس 2011

الثالثة فجراً في الشارع

يعني مثلاً أن نكون واقفين على السلم، ننهي بقايا الحديث المقطوع بسبب اتصال أبي ، وطلبه مني العودة.. واقول بلا خجل أن أبي لا يزال حتى هذه اللحظة التي أبلغ فيها من العمر ما يربو على ربع قرن، لازال ينتظر عودتي كل ليلة لينام.. حتى لو كانت الساعة كما هي الآن، تتجاوز الثالثة فجراً.. 
فتضحك أنت وتقول لي أن اباك لا يسمح لك حتى هذه اللحظة التي تبلغ فيها ما يربو على الربع قرن، بالعودة في الثالثة فجراً أصلاً، وانت انهيت دراستك، وبدأت في العمل، فأضحك، وأقول أنني في الخارج حتى الثالثة فجراً لأني قلت أنني احتاج نسخة من كتابٍ للكلية على فلاشة.. وبعد الانتهاء من الدعابات التقليدية المكررة المعتادة _والمضحكة رغم كل هذا_ عن "نهين" و "نهون"، تدخل انت للبيت، لتحضر لي فلاشة، لا أفهم في البداية، فتقول أنها احتياطي لسؤال أبي عن الفلاشة، واستعيد مباشرة أجواء ثالثة اعدادي ودليل المذاكرة، قبل الخروج من البيت، وأضحك.. 
أشياء كهذه يا فريد.. أشياء كهذه .. 

الأحد، 31 يوليو 2011

كمّ مُهمل



اليوم الثلاثاء، انتظر الخميس، لأنام وأصحو في السبت قاتلاً الجمعة قبل تكوّنه، أصبحت محترفاً في تمرير الأيام، بالظبط كما يفعل مرضى الكلى بحصواتهم، بلا ألم، بلا عناء، أتبول يومي كل صباح بهدوء..

أوقن بأن كل ما نفعله.. كل هذا الصخب والعنف والقسوة والعجرفة والسخرية والتصارع والغباء، وكل الكلام، والشعر، والنثر، الغزل والتعفف واللمس المختلس، وكل المشاجرات المسائية والصباحية، وكل تمهيدات الشجار مهما اختلفت اشكالها، كل الخرف الذي يصبه سائق التاكسي، والجنون الذي أراه على وجوه الناس في الشارع، نفس جنون المراكز التجارية، والنهم في المطاعم، الابتسام المبالغ فيه حين التعرف على شخص جديد.. كل هذا فقط لنثبت للآخرين، أننا أحياء، مثلهم، ربما أكثر منهم.

المفاجأة ستكون في الغالب، أنهم موتى، غالباً أكثر منّا. وأن الأرض خالية إلا من رمل ناعم يغطّيها.

الاثنين، 25 يوليو 2011

الناس عمرها ما كانت مبسوطة

أعتقد_ والله أعلم_ أن البشرية فقدت ثلاثة أرباع تراثها، في اللحظة التي اكتشف فيها شخص يجلس أمام جهاز كومبيوتر، أن بإمكانه كتابة حرف هاءٍ متكرر، دون أن يضحك .

الاثنين، 18 يوليو 2011

إنهم يذاكرون الباطنة في التحرير

أيام التحرير الأولى، واحد صاحبي قرر الاعتصام في الميدان بمصاحبة مئتي وخمسين جنيهاً، يأكل منهم، ولحاف ثقيل، وكتاب باطنة.. لم نكن نعرف ميعاد الامتحان، حين اضطربت الأمور، وهو لم يكن قد فتح كتاباً بعد، وشعر بالفزع من فكرة أن تفشل الثورة، ويقرر "النظام" عودة الحياة لطبيعتها في اليوم التالي، فيدخل على امتحان لا يعرف عنه كلمة، لهذا قرر امساك العصا من المنتصف.. 

أيام التحرير الثانية، قابلت صديقاً لي بالصدفة، وعيني وقعت على كتاب الباطنة المألوف، رديء الطباعة، فاقع اللون والمحتوى، سألته عمّا يفعله بالكتاب هنا، فقال انه لم يستذكر كلمة لامتحان الأسبوع القادم، وأن هذا هو الحل الوحيد، سألته هل ذاكر إذن، فضحك وقال إن الأمل في وجه الكريم.. ما بين هتاف وهتاف، يجلس في خيمة ويقرأ كلمتين.  

دعك من التعريفات الأكاديمية، أن أنظر لأي كتاب باطنة الآن فأبتسم دون ارادة، رغماً عن الحقيقة العلمية التي تنص على أنني أكره حتى كل علامة ترقيم فيه، فهذا هو تعريف المجاز .


السبت، 16 يوليو 2011

خلال ثلاثة أيام، حلمت نفس الحلم ثلاث مرات. أكون ماشياً وحدي على كوبري مبهم التفاصيل، ولا أرى أمامي إلا شخصاً يقترب بنفس سرعتي في المشي، عندما يصبح بمحاذاتي يدير وجهه للناحية الأخرى، فلا أميز من ملامحه أي شيء، بعد تجاوزه بخطوات، أشعر باليد التي تدفعني من الخلف ناحية السور المنخفض، تسقط نظارتي وأفقد التمييز للحظة، وأشعر باليد ترفعني عن السور الذي أشم رائحة صدئه، أحاول التشبث بأي شيء، لكنني أفشل. استيقظ قبل الوصول للماء بلحظات.

الأحد، 10 يوليو 2011

أين يمكن أن يذهب الناس في يوم مشمس كهذا؟

(1)
قبل نزولي للقاهرة، حظيت بفرصة شجار مع والديّ حول جدوى نزولي ميدان التحرير. حجتمها كانت بسيطة : مادمنا نعرف جيداً، وبشكل يقيني، أن مظاهرة اليوم ستكون مليونية. وأن العدد حسب التقديرات سيكون الأكبر منذ فترة لا بأس بها، فما هي فائدة نزولي بالظبط؟
الكارثة_فكرت بفزع في الفترات المقتطعة من الصراخ المستمر_ أن هذا يبدو صحيحاً فعلاً.

(2)
مجلة ميكي مجلة غير بلهاء، وفي الوقت الذي يشتريها الأهل بهدف "تسلية" أطفالهم، فإنها تلعب ألعاباً عجيبة كذلك في أدمغتهم. ليس موضوع الغزو الثقافي فقط(وهو موجود) لكنه كذلك تقديم أفكار شديدة التعقيد بشكل شديد التبسيط..
خذ عندك هذه القصة مثلاً: يقرر بطوط، في يوم مشمس صافي، والأولاد الثلاثة(سوسو- لولو- توتو) أن يذهبوا إلى البحر. يعدّون كل شيء، لكن واحد من الأولاد يتساءل بصوت عالٍ قبل الخروج من البيت: ولكن معنى أننا قررنا الذهاب، لأن الظروف (الجو وخلافه) مناسبة، أن الناس كلها ستقرر مثلنا النزول للبحر في هذا اليوم، لهذا فالشاطيء سيكون مزدحماً جداً، ولن يمكننا اللعب كما يجب، وبالتالي فليس اليوم هو اليوم المناسب. وهو كلام منطقي، الثاني يقول أنه لو فكر كل الناس بهذا الشكل، فإنهم كلهم سيجلسون في بيوتهم مقررين عدم الذهاب خوفاً من "الزحام" وبالتالي سيكون الشاطيء خالياً تماماً.. يقول الثالث : ولكن لو فكّر كل الناس أن كل الناس(الآخرين) سيفكرون بهذا الشكل، فالناس(الآخرون) سيصلون لنتيجة أن الشاطيء سيكون خالياً تماما، وبالتالي سيذهبون.. وبذلك سيكون الشاطيء مزدحماً !  يقول بطوط، ولكن لو .. إلخ ..
في نهاية القصة (التي تستغرق صفحة واحدة، نجد الشاطيء خالياً تماماً ما عدا سبّاح الانقاذ الذي يتساءل : "أين يمكن أن يذهب الناس في يوم مشمس جميل كهذا؟" . الحقيقة أن الناس كلهم لم يذهبوا إلى أي مكان وجلسوا في بيوتهم يفكرون دون أن يصلوا لنتيجة .. الناس لم يذهبوا لأنهم لم يعرفوا بالظبط ما الذي سيفعله "الآخرون".

(3)
لم أكن قادراً على ترك المظاهرة، كنا حشداً في حدود الثلاثة آلاف، متجهين نحو التحرير عن طريق ميدان طلعت حرب، الألتراس غالباً هو من يقودها، الطبلة، الهتافات الملحنة على ايقاع الطبلة عملاقة الحجم، والصافرة حول رقبة أغلبهم، تيشيرتات رياضية، وبعضهم عاري الجذع حتى،  وبالطبع سب الداخلية ما بين هتاف وهتاف. اشتباكات الشرطة معهم يوم الخميس ألقت بظلالها بشكل واضح.. الداخلية فقط، لأنه حين بدأ يقول "حكومة وسخة" اعترض الناس ورفضوا الهتاف.. صمم على رأيه في البداية، ثم لان أخيراً، وبدأ الهتاف ضد المشير..
 كان يجب أن أترك المظاهرة لأنضم لرفقة السفر حتى نعود، تناقشت معهم قبل الوصول للقاهرة، في إذا كنا سنعتصم أم لا، قررنا عدم الاعتصام حفاظاً على القلة القليلة الباقية من احتمالات نجاحنا في الامتحان بعد أيام..
كانوا ينتظرونني في ميدان طلعت حرب. هذه هي المرة الثانية التي سأترك فيها المظاهرة..انفصلت عنهم عند الوصول للميدان لأنضم لمجموعة من أصدقائي كانوا هنا منذ الصباح.. وهم نفس المجموعة التي شاركتني المظاهرة منذ بدايتها.
وقفت معهم للحظات، وهم كانوا ينظرون بحسرة للمظاهرة، سألني وهو يعرف الإجابة: انت كنت في المظاهرة دي؟ .. هززت رأسي، الحقيقة انه رآني أخرج من وسطها..  لم أعرف بالظبط ماذا حدث، لكني وجدتهم فجأة وسط المظاهرة بعد أن انهيت كلامي. لحقت بهم وأنا أضحك..
ابتعدت عنهم.. وأنا أمسح بعيني المتظاهرين، حتى وصلت للوجوه المألوفة المحمرّة المسمرّة المتعبة، التي لم ترحمها شمس اليوم الرهيبة، ضحكوا حين رأوني، تساءلوا عن سبب عودتي.. شرحت فهزوا رؤوسهم .
المرة الثالثة كانت حينما نادت رفقة السفر للتحرك في شارع لا أعرف اسمه، الحقيقة أنني كنت أشعر بحسرة غير طبيعية وأنا أودعهم للمرة الثانية.. عدت لرفقة السفر الذين اشاروا إلى شارع ما سنمشي فيه..  لأكتشف أنه موازٍ للشارع الذي تسير فيه المظاهرة بالفعل، أؤكد على هذا، ثم أعود للركض من جديد لأدخل وسط الناس، يندهش أصدقائي الذين ودعتهم منذ لحظات، احاول ان اشرح لهم بخجل، ثم نؤخذ بالهتافات الجديدة..

(4)
هناك فكرة فلسفية مملة تبدأ كالآتي:
في ذقنك، شعرة واحدة.. هل يمكن أن نعتبر هذه الشعرة لحية؟ لا .. إذن سنضيف شعرة ثانية.. هل نعتبر اثنان لحية؟ لا.. ثالثة؟ لا.. سنستمر في هذا حتى نصل مثلاً لعدد 50 ألف شعرة.. الخمسون ألف شعرة هو عدد مقبول للحية..
كان الفارق بين شعرة واحدة واثنتين هو شعرة واحدة.. والفارق بين الخمسين ألف شعرة والربعمائة تسعة وتسعون هو شعرة واحدة كذلك.. في الحالة الأولى لم تكن الشعرة الواحدة مؤثرة كفاية حتى نغير حكمنا، في الحالة الثانية كذلك، الشعرة الواحدة ليست هي العنصر المؤثر..
تتوقف النظرية هنا.
لكن الحقيقة أن لولا الشعرة الثانية، ثم الثالثة، والرابعة، كلّ على حدة، وكل واحدة بشكل مستقل، لما كان من الممكن أن نصل للخمسين ألف.. هل يبدو هذا بديهياً؟ غالباً.. لكن  البديهيات هي دائماً ما ينقص لكي يكتمل الأمر.

(5)
أثناء توجة المظاهرة لميدان التحرير، كنت أبحث_بدرجة من حزن_عن طريقة أذهب بها لميدان طلعت حرب، حيث مكان التجمع تمهيداً للعودة، المظاهرة كانت مستمرة في السير، حين قيل لي أنني سأنتظر حتى تصل المظاهرة لشارع عمودي معين على شارع طلعت حرب المؤدي للميدان، وبهذا أنفصل عن المظاهرة، وأتحرك لأصل لطلعت حرب.. عندما وصلنا للشارع إياه.. ودعتهم لأتحرك.. كانت هذه هي المرة الأولى.. كنت حزيناً، ودعوت الله أن يتوقفوا قليلاً عن السير لأهتف معهم لوقت أطول. هنا  لاحظت أن المظاهرة توقفت تماماً.. لحظات ثم قرروا تغيير مسارهم، وبدلاً من اكمال الشارع، سيتوجهون عن طريق ميدان طلعت حرب عن طريق الشارع الذي كنت سأسير فيه.. وبدلاً من السير وحدي سار معي ثلاثة آلاف متظاهر (عدا ثمان منهم) لا يعرفون غالباً أن هذا هو طريقي أصلاً..
نظرت لهم بذهول، ثم ضحكت.. لا يمكن لأحد أن يقول شيئاً يعلق به على أشياء كهذه.. مثلاً حين نظرت للسماء، كان القمر نصف دائرة بالظبط، نصف دائرة بالتمام والكمال، وكأنها محسوبة بالورقة والقلم والمسطرة. كان هذا جميلاً ببساطة، لا ضرورة لأن يكون له معنى، لكنه جميل، وربما كان هذا معناه. كذلك، من الجميل أن المرء حين يدوس على قدم من أمامه لأربع أو خمس مرات متكررة لدواعي الزحام، ينظر صاحب الحذاء للخلف، ثم يضحك حين أضحك، ثم يسلم علي ويربت على كتفي هكذا بلا مناسبة .هذا الموقف من بديهيات الثورة، قاله ألف قائل، وشرحه لي بانبهار ألف واحد، لكني وأنا أحكيه لأخي بعد عودتي، واثقاً من أنه يعرف ما أحكي عنه، وسمع عنه بالضرورة، كنت أشعر كالذي شهد الأسطورة وحده، الناس هناك تدوس على أقدام الآخرين، ثم تعتذر فيُقبل اعتذارهم . 

(6)
تتكرر في القرآن اشارات إلى أن الحساب لن يكون اجمالياً، وأن كل انسان محاسب على ما يفعله هو، هو بالتحديد، هو فقط .. "وإن كل آتيه يوم القيامة فرداً"، تقول بوضوح أن الحساب لن يكون أبداً على أساس المجتمع أو المجموع البشري مهما كان توصيفه..
يقول غسان مطر في وصاياه_وصيته الوحيدة لو أردنا الدقة، لأنه رفض قول المزيد_ أن على الواحد أن يعمل الصح.. وهذا ليس بالضرورة سهلاً، لكنه في كل الأحوال جميل. 

(7) 
في طريق العودة، حيث كنت أحاول مقاومة النوم، و التغلب على الصهد الذي أشعر به. فكرت أن كل هذا سينتهي يوماً، بأي شكل قٌدر له الانتهاء عليه، وأن هذا هو الامر الواضح لا لبس فيه. عندما كنت في العاشرة تقريباً، سألت جدي، المُقعد، الذي كف بصره، ولم يعد يسمع إلا بالصراخ جوار اذنه، والذي رغم ذلك كان يصر على شرح منهج العربي بالكامل قبل بدء الدراسة، مضيعاً عليّ وقتاً ممتعاً من اللعب، سألته عن فائدة كل هذه المذاكرة، مادمنا كلنا سنموت في نهاية الأمر.. وهو سؤال يليق بصبيّ ذي فلسفة وجودية لا بأس بها، على كل حال ما أتذكره جيداً انه صمت، ثم ضحك، ثم قال : أدينا بننبسط.

الخميس، 30 يونيو 2011

صوت تنفس منتظم


توقفت عن القراءة حين سمعت الصوت في الصالة، نظرت للباب، وانتظرت حتى سمعت صوت الطرقات عليه، لأخلع نظارتي وأغلق الكتاب، أضعه جواري، وأتمدد على السرير معطياً الباب ظهري، تكررت الطرقات مرتين ثم فُتح الباب، سمعت صوت أمي وهي تقول : "صاحي؟".. لم أرد وأكتفيت بالنظر إلى الحائط أمامي، كنت قد بدأت أكتب مقطتفات من الشعر على الحائط منذ أن كنت مراهقاً، وتطور الأمر، وخرج عن سيطرتي تماماً، حتى أصبح وجود مكان يتسع لكتابة شيء جديد معضلة حقيقية. 

لاحظت أنها لم تغلق النور بعد كالعادة، سمعت صوت خطواتها في الحجرة، ثم صوت كرسي المكتب وهي تسحبه لتجلس عليه، لم أعرف بالظبط ماذا يحدث، وفكرت أنها لو كانت تنوي القيام بحملة تفتيش ما، فالبيت لن ينام اليوم، لكنني لم أسمع صوتاً لفترة، ثم سمعتها تقول : "صاحي؟ ".. وكررت : "لو صاحي، عايزة أكلمك في موضوع كدا".. وأنا لم أرفع عيني عن الحائط..

سمعتها تقوم وتعيد الكرسي إلى مكانه، تحركتْ في الغرفة وخمنتُ أنها تتحركْ نحوي من اتجاة صوت الخطوات.. شعرت بها جواري، مالت عليّ فأغمضت عيني، وحافظت على انتظام تنفسي.. ابتعدت ثم  أغلقت النور، وسمعت تكة اغلاق الباب. وأنا تساءلت عن فائدة كل هذا الشِعر أمامي مادمت عاجزاً عن تبادل حديث عابر مع أمي حين ترغب في الكلام. 

الاثنين، 27 يونيو 2011

الخرسانة

الثلاث ثوان التي يستغرقها ضغط زر الاتصال، أخضر اللون في الهاتف المحمول، هي_والله_ كل ما يمنعني .

الجمعة، 24 يونيو 2011

1 + 1

تحيرني الآلية التي تعمل بها الذاكرة، وطريقة الانسان الاعتيادية في استعادة ما قد سبق حدوثه.. يخيل إلي أننا في أغلب الأحيان نتذكر أشياءً لا علاقة بها بأي حال، من قريب أو بعيد، بما حدث فعلاً على أرض الواقع.. الذاكرة وحدها تقرر ما اسعدها، واحزنها، أثار حنينها، أو سخطها، أو أي شعور آخر يمكن وصفه أو يستعصي..

المشكلة أن الانغماس في هذه الفكرة يحيل المرء إلى دوامة من دوامات أفلاطون الشهيرة، البلهاء كذلك: هل ما يحدث في هذا العالم يحدث فعلاً؟.. أم أن كل شيء هو مجرد انعكاس لما يحدث يحدث "فعلاً" في عالم مثالي تماماً قوامه الهندسة والرياضيات.. عالم مثالي لأنه المكان الوحيد الذي يكون فيه كل شيء واضحاً كما ينبغي له أن يكون.. واحد مضافاً إليه واحد لن يكون ثلاثة أبداً، حتى لو كان هذا جميلا.. وبتطبيق نظرية الحساب هذه على كل شيء، فكل شيء كان يوماً (واحد زائد واحد يساوي اثنين) وتحول على ظهر العالم "الواقعي" إلى (ثلاثة) وهذا شيء، حتى لو لم يكن حقيقياً، جميل .

كل هذا الخرف فقط لأقول أنني استعيد الأيام التي قرأت فيها كتاب (رحلتي الفكرية) للمسيري، فأشعر بدهشة حقيقة. بشكل عام، أغلب الكتب التي اعتبرتها مهمة، كانت لسبب ما تقع في يدي في الوقت الذي أكون فيه مشغولاً بعمل عقدة المشنقة استعداداً للانتحار.. يمكن اعتبار هذا قاعدة عامة. لكن أيام المسيري كانت تناسب حجم كتابه، فلنمض في التشبية لآخره، كنت إذا قد وضعت رقبتي في العقدة، وصعدت على الكرسي، مستعداً للقفزة الأخيرة، حين وقع الكتاب في يدي، قرأت مقدمه الكتاب لأقرر أنني سأقرأه، في الوقت الذي كان وجود نجيب محفوظ نفسه كقاريء لكتبه أمامي، أمر غير مبهر، وغير محفّز.. 

كيف يمكن لهذا أن يكون ذكريات سعيدة؟ كيف يمكن لي أن أستعيده وأبتسم تحية للأيام، فلنتجاوز الكلام الغريب من نوعية نشوة المعرفة والسعادة بها، لأن المرء يمكن أن يعرف وهو سعيد. 

استيقظ في الثالثة فجراً، لا حاجة لارتداء ملابس خروج، لأنها ملابس نوم كذلك، اتأكد أن مفتاح البيت معي، حتى لا أبيت في الشارع، وأن معي أموالاً تكفي لوجبة سريعة، وحيدة طول اليوم، وأخرج والناس في البيوت نيام، اتجول قليلاً، آكل أي شيء، ثم أجلس في القهوة التي تبدأ يومها، متأملاً في الكون، وأعود للبيت لأجلس لقراءة الكتاب منذ الخامسة تقريباً وحتى يقضي الله أمراً.. أنهيت الكتاب في أسبوع، بالظبط وسط أيام الانقطاع التام عن البشر. كنت قد انهيت امتحانات السنة الثالثة بمعجزة ما، واغلقت بعد آخر امتحان هاتفي، ولم أخرج من بيتي لمدة شهر كامل. قبل وفاتها بفترة ، قالت جدتي أنني إما أن أجن تماماً وإما أن يلطف الله بي، ماتت هي قبل امتحان شفوي لمادة لا أذكرها، وانا دخلت على الممتحن ليسمعني اسوأ ما يمكن سماعه، ولأفكر أنا في نفسي وانا انقض عليه واخنقه، قبل أن يطردني، سألني إذا كنت مكسوفاً من نفسي بخصوص هذه الخيبة الثقيلة، في الحقيقة لم أكن.. بشكل أوضح كنت تقريباً أعرف كل اجابات اسئلته، في ظاهرة كونية لم تحدث من قبل ولا من بعد، لكنني لم أستطع اجبار لساني على قول كلمة.. هززت رأسي بإيماءة لا معنى لها، وخرجت.. كنت وسط أيام كريهة، وجاءت وفاتها لتجعل الأمر غريباً فعلاً.. ليس حزناً حتى لأنه لا معنى له.. 

بعد أن انتهيت من الكتاب، اغلقته، وضعته على الرف بجواري، ذهبت للمطبخ وعملت لنفسي كوباً جديداً من الشاي، وعدت لأفتح أول صفحة من جديد.. لأنهيه هذه المرة في شهر. 
استعيد هذا، وأحاول رؤية الموضوع من زاوية تفسر سبب هذه السعادة التي اشعر بها، والابتسامة على وجهي، فلا أفلح. وأعرف أني عاجز عن ادراك كيف أصبحت الأمور إلى ما آلت إليه.. 

لكنني أضحك بصفاء حين أتذكر وقوفي على قدميّ من جديد، واستعادة عافيتي دون مساعدة أحد، واللكمة التي أرسلتها في الهواء إلى فك أحدهم حين قال في حديث عابر لم أكن مشاركاً فيه أصلاً أن المسيري ضعيف فكرياً.. الآن لا ألكم أحداً، أصبحت أقل عدوانية نوعاً ما، وإن كنت لا أزال أتخيل فعل هذا في عالم أفلاطون الهندسي. 

الاثنين، 20 يونيو 2011

جـيـلـي كـولا

صديق الطفولة، الذي عاد من معسكر تجنيده منذ يومين، أعاد رأسه سريعاً إلى الكتاب الذي كان يقلب صفحاته، وأختي الصغيرة، التي فتحت الباب دون أن تنتبه لوجوده، أغلقته سريعاً وهي تعتذر بملامح وجه محرج، وأنا تذكرت أنني وهو حين كنا صغاراً، كانت هي صغيرة جداً _لدرجة أننا كنا نعطيها قطع حلوى لكي تكف عن البكاء_ ولم أعرف بالضبط السبب الذي يجعلني أشعر الآن بكل هذه الوحشة . 

لا توقظ نائماً


لم يُخلق ما هو أجمل
من قبلة مختلسة على خد في عربة مترو
 امساك يد ساعة عبور شارع
وشبع مفاجيء بعد وجبة مرتجلة

اكتشاف كتابٍ ظل منسياً لعام
نسيان ذكرى جاثمة منذ عامين
ثم نسيان نسيانها
وطعم أول هروب من مدرسة

أجمل مالم يخلق
اغماض عين
ونومٌ سالم

الاثنين، 6 يونيو 2011

ولا تتوخ الهرب




جرافيتي على الباب الرئيسي للداخلية
الصورة للشهيد : خالد محمد سعيد
( 27 يناير 1982 - 6 يونيه 2010 )

الخميس، 21 أبريل 2011

بينولوبي



لا يوجد في الواقع، سبب محدد أو منطقيّ، لكون الفتيات اللواتي يجلسن في المقعد المجاور للسائق في انتظار عودته من المخبز الافرنجي، بكيس من الفينو، يملكن في الغالب، اكثر الملامح ابتئاساً بين الخلق.

السبت، 12 فبراير 2011




الآن أتأكد أن الآية التي تقول أن الشهداء أحياء عند ربهم، موجهة لنا لا لهم ..حتى نستطيع النظر في صورهم التي تبقى الدليل المادي الدقيق والوحيد على وجودهم الذي انتهى ، ودون أن تتحول عصرة القلب إلى تمزيق له

المتابعون