الخميس، 6 مارس 2008

تعرفين


تعرفين هذه الأيام بالطبع .
حين يتلخص اليوم كله في إنتظار أشخاص آخرين .. تعرفين طبعي الغريب في رفض الإنتظار .. ألعن لحظات عمري التي يمكن أن أقضيها , ربما كان التعبير الأفضل : أن أهدرها .
هذا كان يومي .. من الممكن أن تضيفي على سوءه , أنني أنتظر مسافرين , وتعرفين وسواسي القهري الذي يتعلق بالسفر ..
تحدثنا طويلاً عن هذا .. أذكر .
محطة القطار هذه المرة , آخر مرة رأيتك كانت هناك .. ها أنا أجلس منتظراً خارج المحطة تلك , في الحديقة تحديداً ..
أتصلت بهم منذ قليل , وقالوا انهم في الطريق .. لا أعرف كم سيستغرق الأمر لكني أقدر أنهم لن يتأخروا .
المشكلة أنهم فعلوا .
أتصلت مرة أخرى بهم , لا بد أنك تفكرين الآن أنني حقاً في حال مأساوي .. لكنك تعرفين , هذا ما يهون الأمر قليلاً .. أنت تعرفين أنني على قدر ما أكره أن يتصل بي شخص وأنا في طريق السفر , ليسألني أين أنا الآن , على قدر هذا .. على قدر ما أفعل هذا الأمر بغزارة ..
هل أفعل هذا بغزارة حقاً ؟!
حسناً , كانت هذه هي المرة الثالثة حين أجاب أحدهم أنهم قادمون , قيلت لي جملة : " إهدا شوية " .. فشعرت أنني سخيف فعلاً , ولحوح كذلك , تعرفين أنني أكون لحوحاً , وسخيفاً في أحايين كثيرة .. لماذا لا أهدأ ؟ .
أعود لأجلس على مكاني في الحديقة التي تواجه المحطة .. كان الإتفاق على مكان معين , أراه الآن بعيني , وأنتظر أي ملمح أعرفه ,
كان قد مضى وقت طويل منذ جلست لأنتظر أول مرة .. بدأت الشمس في ممارسة هوايتها , وتعكير حياتي .. لهذا تحركت ..
تركت مكاني , وتوجهت مباشرة لبائع الصحف على الرصيف البعيد قليلاً .. أعرف هذا المكان رغم أنني نادراً ما أشتري منه شيئاً ..
عدت لمكاني , حاملاً صحيفة واحدة , وقلقاً أحاول أن أكبحه .. تعرفين هذه الأمور .
هل أبالغ فعلاً ؟
بعد أن أنتهيت من القراءة , بدأت أشعر أن رأسي تحترق .. نحن في الشتاء كما أتذكر , لكن الشمس لها رأي آخر .
حين وضعت الجريدة فوق رأسي , وأنا أفكر في مدى سخف هذه الحركة , قال لي الجالس بجواري :
_ " ممكن الجرنان "
تعرفين أنني أكره من يطلبون مني شيئاً يخصني , تعرفين أنني طفل في هذه المواضيع , أحب أن أعطي الناس أشياء تخصني , لكني أكره أن يطلبوها هم .
ولكن المشكلة , كما تعرفين , أنني لا أستطيع أن أقول له : لا , وأنا مطمئن الضمير , يحتاج هذا لقوة أكبر مني .
ناولته الجريدة , وأنا أفكر في حديثنا الطويل , الذي لم ننهه كالعادة , دوماً يتبقى هنالك أشياء أنسى أن أخبرك بها .. دوماً أفكر بعدما أتركك بدقائق أنني نسيت أن أحكي لك عن كذا , وكذا , وأنني نسيت أن أضحكك بالطريقة الفلانية التي أجيدها , وأنني كغبي لم أسألك عن كذا وكذا .. وتستمر الدوامة حتى ألقاك مرة أخرى , فنبدأ التحدث عن كذا وكذا , وأنسى ما يفترض أن أقوله أصلاً .
قطع شرودي وهو يقول لي :
_ " يا ولاد الكلب "
الأعجب أنه قال هذا بهدوء شديد , لم أستطع أن أجبر نفسي على سؤاله .. بدلاً من ذلك قلت :
_ " ثواني وراجع "
قمت من مكاني عابراً الشارع متجهاً نحو محل صغير ..
_ " موبايل لو سمحت " .
حسناً .. هذه المرة قالوا انهم إقتربوا جداً ..
أنا أفقد أعصابي بسهولة هذه الأيام .. في الواقع , هذه الأيام أنا أفعل كل ما تطلبين مني ألا أفعله .. ربما أعاقبك بهذا , لا أعرف , حتى حين أقول لا أعرف , أعرف أنك تكرهين هذه الجملة , رغم أنك لا تعرفين أشياء كثيرة , ربما أكثر مني , لا أعرف لا أعرف لا أعرف لا أعرف .. وأبتسم , وأنا أقطع الشارع متجهاً مرة أخرى لمقعدي .
لا تقلقي , لم أفقد أعصابي عليهم , لا ذنب لهم طبعاً , فقط أحببت أن أقول لك أنني أفقد أعصابي .
لا أعرف ما الذي يحدث لنا .. هناك شيء يحدث طبعاً , لكني لا أراه . لا أستطيع , أقسم على ذلك .
حين عدت له كان لا زال يقرأ .. جلست وقبل أن أتكلم تصاعد صوت هاتفي المحمول , حسناً , هم لن يأتوا .. أكتشفوا أن المكان الذي يقصدونه للعزاء , ليس هنا . لا مشكلة .
سألني وهو لا يزال يضع وجهه في جريدتي :
_ " مش هييجوا ؟ "
_ " لا "
دار بيننا حوار طويل لا داعي لأن تعرفيه عنه وعن مديره وعن حياته , وعن زوجته , وعن الجريدة وعني أنا شخصياً , وعن العمل , ثم عنه , وعنكِ , المشكلة أن الرجل لسانه طويل فعلاً .. وهو يستخدم الألفاظ بحرفيه حقيقية . لا تقلقي , لم يذكرك إلا بكل إحترام .. أحبك كثيراً بالمناسبة , ودعا لنا .. لا أعرف فعلاً مصير دعوته , لكنه دعا على أي حال .
المهم انه قال لي في النهاية تعليقاً عليهم :
_ " حلو لما تعرف ناس "
ثم أشار للمطعم الذي خلفنا وقال لي مباشرة دون أي مناسبة :
_ " حلو المطعم ؟ "
أجبته أنه جيد .. توقعت أن ينهض , لكنه قال لي :
_ " جميل "
أستأذنته في الجريدة , أمسكتها وسلمت عليه قائلاً إنها فرصة سعيدة ..
لم أستطع العودة للمنزل بهذه البساطة .. قررت أن أمر على بائع الصحف مرة أخرى , تعرفين أنني أعرف أنك تكرهين هوسي هذا بالكتب .. أعرف فعلاً .. وإن كنت تحبينه أيضاً .. حين أركب السيارة مثلاً ونمر على بائع صحف , فأرمي بصري ليمسح كل كتاب , منشغلاً عنك , وحين أعود لك مرة أخرى , أجدك تبتسمين ..
متى حدث كل هذا ؟ .. ماذا حدث فعلاً لنا ؟
تعرفين أنني أكره تلك الأسئلة الغبية , محاولة فهم أي شيء هو نوع من الغباء .. لكنني أقولها الآن بتتالٍ غريب .
المهم أنني شعرت بالذعر فجأة . كان هذا حين وجدت كتاباً يهمني .. المشكلة الآن أنه يقبع تحت تلال من الكتب , ربما جبال ! ..
لم أستطع منع نفسي من المغامرة .. مددت يدي اليسرى محاولاً الوصول للكتاب , ويدي اليمنى محاولاً أن أمنع الكتب من التساقط .
هناك الآن تلك اللحظة , أفلتت يدي اليمنى الكتب , توقعت سقوطها فوق رأسي , لكن هذا لم يحدث , مع صوت يقول :
_ " شيل الكتاب "
نزعت الكتاب فعلاً , ونظرت لوجه منقذي , كان هو ! ..رجل الجريدة , والشتائم , تعرفين الذعر .. الصورة الخام هي ما شعرت به في تلك اللحظة ..
تراجعت للخلف بسرعة فأصطدمت بتل آخر من الكتب خلفي , سقط بأكمله , مع صوت جعل صاحب الكتب يقترب مني منزعجاً .. دون كلمة , أو نظرة دفعت له ثمن ما أحمل , وركضت بالمعنى الحرفي .
طبعاً تقولين أنني طفل .. لست كذلك .. لكن هذا الرجل غريب , تعرفين هذه الأمور , غريب ..
بعد أن إبتعدت بمسافة كافية , نظرت للخلف , وجدته يعبر الشارع .. وكدليل على كلامي .. لم أره يتجة للمطعم .. أقسم أنه لم يفعل ؟
قلت لك أنه غريب .. تعرفين هذه الأمور , غريب .

المتابعون