الجمعة، 6 فبراير 2009

مـنـتـهـى الـضـعـف الأدبـي



كان هذا عندما كنت في الرابعة عشر من عمري ..
و" عندما كنت في الرابعة عشر من عمري " كنت مراهقاً تافهاً شديد التفاهة .. أفكر وأنا أقول هذه الأوصاف الآن ، أنني أبالغ قليلاً ، من لم يكن ؟ .. من لم يمارس في مراهقته سخافات وتفاهات بعضها جدير بذكره في كتب الأساطير .. من حرق أذيال القطط ، نهاية بإصابة المدرسات بالإنهيار العصبي .
المهم أنني كنت في الرابعة عشر من عمري ، وهي جملة سحرية يمكن للمرء أن يقولها في دفاعه عن نفسه ، فضلاً عن كونها عبارة تقريرية تهدف إلى إثبات الزمان ،
بالنسبة المكان ، كان مدرستي طبعاً .. لا مغامرات في الرابعة عشر إلا حينما تكون في مدرستك , أو حينما تفعل شيئاً ما تكون هي في خلفيته .. كل أحداث اليوم ستبدأ حين تهرب من المدرسة على بركة الله ، كل ما يمكن أن يحدث داخل المدرسة هو مهم كذلك ، ربما _عند بعض الناس فقط_ هو أهم كثيراً مما يحدث خارجها .. هؤلاء ليسوا أجبن أو أقل جرأة من الآخرين .. فقط ربما لم يهربوا في اليوم المشهود .. نوع من الحظ الذي يأتي ولا يضع في رأسه_الحظ_ المكان الذي توجد فيه.. وربما أقول هذا فقط لأنني منهم ، وأنا لم أهرب قط من المدرسة كذلك .
يمكننا هنا القول أن الحدث داخلي .. وأن المدرسة كانت هي المكان الأهم وقت الحدوث ..
تبقى إذن الحدث بعد ذكر المكان والزمان .. لأن الحدث هو أهم الأشياء ، فهو آخر ما يتم ذكره على الدوام . ولأنه أهم الأشياء ، فهو ككل الأبطال ، يمهد له الجميع لحظة الظهور ،
.. يكون الحدث، بشكل عام ، محصوراً في أربع خيارات على أقصى تقدير : مشاجرة / هروب / نجاح دراسي / فشل دراسي .. ويمكننا وضع (مشاجرة مع مدرس) على استحياء ، وإن كانت هذه المرحلة تنتمي أكثر لعالم الثانوي لا الإعدادي ، حيث مازلنا مراهقين عندنا 14 عاماً ، نتحسس طريقنا .
(محمد عاطف) لم يكن صديقي لأمزح معه بهذه الطريقة ، أعترف .. ولو أنه لم يكن غريباً كذلك عني .. حين يكون تعداد الفصل عشرون طالباً فمن المستحيل أن يكون هناك غريب .. فقط هو لم يكن صديقاً ..
وأجدني الآن مصراً على تكرار كلمة "مزاح" التي كانت التبرير الوحيد الذي كنت أقدمه كلما تكاثرت على الإتهامات .. مزاح أيها البشر ! .. أيها الأغبياء! .. ليس ذنبي أنه لم يفهم أنني أمزح (هل كنت أمزح فعلاً ؟) وبدأ في البكاء والنواح كالأطفال ( هل سأعود لإستخدام أساليب المراهقين في السخرية ؟) .. لا أفهم الآن ما الذي حدث بوضوح ، لكني أذكر أن الفتى كان مذعوراً .. كان منهاراً لدرجة أنه أخرجنا _نحن المهاجمين أو من نبدو كذلك _ من مرحلة الرغبة في مساعدته إلى الخوف من مجرد الإقتراب منه ..
أعتقد أن كلمة الـ"مهاجمين" توضح جلياً أنني لم أكن الحثالة الوحيد في هذه الليلة السعيدة .. وإن كان العقاب قد تركز على دماغي ، وحملت الطين كله ، لأن "أحمد حميد " (إسم أبلة ؟ أم أنني أبحث فقط عن الشماتة ؟) قد أتت أمه لإصطحابه مبكراً ، في حين أن أبي قد تأخر فأصطادته المشرفة ، التي كانت تكرهني لله في لله ، ولا تحتاج فعلاً إلى مجهود لكي تشرح لأبي كيف أنني مشروع سفاح واعد بالنجاح ..
كنت في هذا الوقت خارج مصر .. طفل مصري بريء في مدرسة تابعة للسفارة المصرية، يتعلم بنفس الطريقة التي يتعلم بها البشر هناك ، ويمتحن نفس الإمتحانات ، لأن أبويه أرادا له ألا يختلف عن قرناءه في مصر السعيدة ، ولكنه عندما يكبر يكتشف أن كل هذا كان إشتغالة كبيرة ، وأنك لكي تشبه شخصاً ما في مكان ما ، لابد أن تمر بنفس الظروف بالظبط .. وهذا ما لم يحدث ..
كل هذا الكلام عن المدرسة المختلفة عن مصر ، والأحوال التي تختلف عن الأحوال ، والظروف المختلفة عن ظروف مصر ، فقط لتبرير فكرة أن يأتي أب (في حالتي ) أو أم ( في حالة أحمد حميد) لإصطحاب إبنهما الطالب في الإعدادية .. و لكي يقابلا المشرفة _ التي تكره نفسها ، والبشرية كاملة _ في الأوقات التي يرتكب فيها النجل البريء ، المصائب الكبيرة ( في حالتي فقط .. وأعني مقابلة المشرفة لأبي دوناً عن امه)
سيبدو مبالغاً فيه أن أقول أنه في الوقت الذي كنت أقف فيه بجوار المشرفة _ أمام أمي ، خافضاً رأسي عاجزاً عن تخيل أن ما يحدث ، يحدث فعلاً .. وشاعراً بالمهانة من القميص الممزق الذي يكشف صدري كاملاً ، وجزءاً لا بأس به من بطني _ سيبدو مبالغاً فيه أنني كنت أفكر أن الأمر ليس بهذا السوء الذي كانت تشرحه المشرفة .. وأنني لم أفعل كل ما كانت تقول ، و عندما قالت أنني _ولم تذكر شخصاً آخر_ " حبسنا " محمد عاطف في الفصل ، وضربناه .. شعرت بالظلم ، وأنني على وشك البكاء من الإمتهان .. كنت أود ساعتها أن أقول لأبي بألا يصدق كلام هذه المجنونة لأني لم أحبس الفتى .. ربما أشعرناه (ونحن اثنان كذلك ، لست وحدي ) بالرعب والخوف ، لكننا لم نحبسه ، باب الفصل حتى لم يغلق ولو للحظة في الفترة التي استغرقها ما حدث ، لكي يحدث .. ولكنني لم أنطق بكلمة .. فقط ابتلعت كلماتي التي كنت أود قولها وصمت ..
أبي لم يسألني عما حدث .. وعندما جلست جواره في العربة ، لطمني بظهر يده اليمنى على قفصي الصدري ، لطمة أخرجت الهواء من أذني .. ودفعتني للبكاء ، وإن كنت قد تماسكت لفترة .. مدعياً أنني ، ربما ، هذه المرة ، لن أبكي ..
ليست هذه المصيبة بالمناسبة .. كان هذا شيئاً بسيطاً مقارنة بالعقاب الأسطوري الذي نلته من أمي ..
كان هذا يوماً خالداً بالفعل .. تم ضربي كمرتبة ..
الغريب هنا أن أمي كانت تضربني بهذا العنف الذي لم تمارسه من قبل ولا من بعد ، فقط لأنني كذبت عليها ، ولم أذكر الحقيقة كاملة .. وهي الشيء الذي عرفته هي من أبي ..
المشكلة هنا أن الحقيقة التي مع أبي ، كانت منقوصة ، وغير صحيحة .. نقلها هو لأمي بكل بساطة .. وهي صدقته بكل بساطة النقل ، في الوقت الذي معلومتي فيه صحيحة نسبياً ، من وجهة نظري ، ولكنها ظنت أن ما أفعله هو نوع من الكذب عليها ، وهو لم يكن كذلك من وجهة نظري ، وإن كان كذلك من وجهة نظر أي شخص غيري .
ربما لم أكن بهذه البراءة .. لا أعرف ..
ربما حبست الفتى فعلاً في الفصل ( ولست وحدي .. أحمد حميد كان معي ) ومارست عليه كل الأذى النفسي الممكن وغير الممكن .. ربما لهذا دافع ، كقط مذعور ، عن نفسه ، ومزق قميصي حين ملت عليه لأخبره بألا يخاف ، لأننا نمزح فقط ! .. وهو نفس الشيء الذي فعله مع أحمد حميد ، الذي هرب ، كقط مذعور ، هو الآخر من الفصل وتركنا أنا و محمد عاطف ، وأخت محمد عاطف .. هل ذكرت أخته ؟
حسناً أخته كانت موجودة .. وهي تكبرنا جميعاً ، وأتت لأصحطاب أخيها الصغير .. ودورها شديد الهامشية .. لأنها خرجت من الفصل سريعاً ، قبل أن نبدأ ما تم إعتباره مضايقة وحبساً للفتى ..
فكرت حينها ، أنها لو كانت موجودة حين حدث ما حدث ، ربما كانت ستقول ما حدث فعلاً ، وهو أننا لم نفعل شيئاً ، ربما كنا سخفاء قليلاً ، ربما أخفنا الفتى فعلاً ، لكننا أبداً لم نؤذه ..
الحدث المهم ، حين صمت ولم أتحدث ، ولم أدافع عن نفسي أمام سيل الإتهامات المبالغ فيها من المشرفة _ التي تكره نفسها ، والبشرية كاملة _ ، تم اعتبار صمتي الذي كان للذهول أقرب اعترافاً بخطأ لم أرتكبه كاملاً ..
هذا هو إجابه السؤال الأول الذي لم أفهمه في البداية ، عن كوني عدائياً مع الناس في الوقت الذي أشعر فيه بالإتهام من طرفهم ..
لا أعرف لم فكرتِ في هذا .. ربما هي حقيقة .. وربما كان تفسيرها الأمثل هو العودة لعقد الطفولة ..
ربما شخص ما ، يسأل (محمد عاطف) الآن ، عن سبب كونه جباناً جداً .. ويتذكر هو الموقف بأكمله ، ويكرهني أكثير ، ثم يعترف في النهاية بما حدث ، ويقول بحكمة أنها لابد : عقد الطفولة .
والحدث الأهم ، حين ضربتني أمي بعنف لأني كذبت ، ولم أصدق القول معها ، حتى وإن كنت مظلوماً بشكل حاسم في هذا الوقت .. هذا هو إجابة السؤال الثاني .. حين أرفض الكذب في كل مرة يتاح فيها أمامي ، ليس لأن الدين يأمرني بذلك ، ولا لأن أفلاطون يعتبره علامة على الضعف (إن كان هو من يفعل) ولا لأي شيء آخر ، حتى لو كان عصياًَ على التصديق .. مثل الرغبة المريضة في الظهور بمظهر الرائع ، غير أنني في كل مرة أوشك على إنكار الحقيقة ، أتحسس أوجاعي التي لم تهدأ من ساعتها
وهذا كله ، لا علاقة له بك ..
ولا بكونك غالية إلى درجة أنني أمنع نفسي من ممارسة العدائية المعتادة حين تتهمينني بإتهامات لا صحة لها .. ليس لأني أعترف بذنبي .. ولكن لأني أخاف من الضغط على البللور حتى لا ينكسر .. حتى لو ظلمني هذا البللور ، بسبب تأثير مكوناته الإنسانية ، وضغط عليّ .. وهذه الجملة بالمناسبة ليست من قبيل التعبير الجمالي البليغ .. بل هي منتهى الضعف الأدبي ، لأنني أذكر الواقع كما هو دونما تدخل ..
ولا علاقة له كذلك بكوني لا أكذب عليك ..ليس لأني أتحسس أوجاعي في كل مرة .. ولكن لأنني أخاف الصاعقة التي ستهبط من السماء مباشرة على رأسي لو كذبت على قديسة ..

المتابعون