الأربعاء، 24 ديسمبر 2008

The incredibles



كرد فعل شرطي لا يد لي فيه ، نظرت في ساعتي بطرف عيني ، حينما رأيتهما يتجهان نحوي .. ثم لمت نفسي .. النظر في الساعة علامة مؤكدة على الضجر ، إستعجال مرور الوقت ، كره اللحظة الحالية ، ولكي نكون منصفين .. لم أكن ضجراً ، ولم أستعجل مرور الوقت ، ولا حتى كنت أكره اللحظة الحالية لأني توقفت عن ملاحظتها من الأصل .. فقط هناك إمتحان ما ينتظر تشريفي ، والتغيب عن الإمتحان هو الخطوة التي أؤجلها حتى لحظة الإنحراف الكامل .
هناك أشخاص يفهمون المزاح .. لا يعني هذا أنهم أذكى ، أو أفضل ، أو حتى يمتازون بأي ميزة مرتبطة بكونهم على هذه الشاكلة.. هم فقط يفهمون المزاح ..
رفعت ذراعي اليسرى حينما أقتربوا مسافة كافية .. ونظرت في ساعتي بطريقة مسرحية وأنا أقول بصوت عال أن :
_ " شافوني .. يادي النيلة .. هنقعد بقا نتكلم ونحكي ، وعندي إمتحان لازم أتنفخ فيه بسرعة "
نظر أيمن إلى شادي مظهراً ملامح إمتعاض مسرحية ، ثم قال :
_ " هو مش دا ننوس عين أمه "
وشادي هز رأسه مظهراً تعبير الإشمئزاز ، برفع شفته السفلى حتى كادت أن تغطي على العليا قائلاً :
_ " كنا لسه بنقول أنه يوم أسود "
وانا ابتسمت في سعادة حقيقية قلما أستشعرها وتساءلت :
_ " إزيكوا يا بهايم "
أيمن كان يكتب الشعر . شادي كان يرسم . إستخدام الفعل الماضي "كان" وعدم الإقتناع بفكرة أن نتركه في حاله كما تنصح ليلى مراد ، تعني أنهما لا يفعلان الآن أياً من كتابة الشعر ، أو الرسم .
فكرت أننا الآن سنبدأ في سؤال بعضنا البعض عن أسئلة شديدة الخصوصية محاولين التظاهر في كل سؤال أننا نهتم فعلاً ، وأنني لو لم أعرف ماذا يفعل شادي هذه الأيام ، أو ما أخبار أيمن تحديداً وهو على شفا حفرة من التخرج _ أنني لو لم أعرف هذا فلن أنام الليل ..
شادي بدأ الحفلة متسائلاً :
_ " عامل إيه يا عم ؟ " .. وأكمل طبعاً :
_ " فينك كدا ؟ "
هذه الأسئلة بالذات لا حل لها سوى أن أبتسم إبتسامة دبلوماسية ، وأهز كتفي قليلاً ، ثم أثني برأسي قائلاً أنني :
_ " موجود .. " ثم ألقي الكرة في ملعبه مبتسماً من الداخل في خبث :
_ " إنت اللي مش باين "
_ " أنا موجود على طول .. إنت مش باين "
يُذكر إسم رامبو كلما ذكر التوقف عن الكتابة بشكل عام ، عن كتابة الشعر بصورة أخص .. رامبو انهى رحلته الشعرية وهو في سن العشرين لا غير .. توقف فجأة ! .. وقال كلاماً يليق بشاعر عن أن إلهة الشعر توقفت عن منح بركتها له عقاباً له على موبقاته .. توقف عن الموبقات آملاً أن ترضى عنه ، لكن يبدو أن إلهة الشعر بلهاء بشكل ما .. مات وهو يبلغ من العمر 37 عاماً .. ولم يكتب كلمة منذ سن العشرين .. وقال جملة شهيرة _سيستخدمها أيمن طبعاً_ : أنا أنتهيت .
حسناً .. أيمن لم يقل أنه أنتهى بالظبط .. في الحقيقة هو لم يخبرني مباشرة أنه توقف عن الكتابة .. في فترة ما كانت صداقتنا تسمح لي بسؤاله كل فترة عن الجديد .. وهو كان يهز رأسه بصمت .. وحينما تحدث أخيراً قال شيئاً عن كونه ليس ماكينة قهوة .. وأخبرني أن أطلع من نافوخه .. و في النهاية قال مشمئزاً من شيء ما كالعادة أن :
_ " جبت آخري من الليلة الوسخة دي " .. أخبرته أن هناك تشابه لا يخلو من فقر في الإبداع بين جملته تلك ، وجملة رامبو ، فقال لي :
_ " ملعون أبو رامبو "
ثم نظر لي وأكمل رافعاً حاجبه الإيمن :
_ " وبعدين رامبو مش بتاع ضرب النار والأكشن والجو دا ؟ .. كتب شعر إمتا بقا ؟
يسألني شادي عن ميعاد إمتحاني .. أخبره أن أمامي حوالي نصف ساعة .. يتساءل عن السبب الذي يدعوني للقدوم إلى الإمتحان قبل نصف ساعة ، فأخبره أنني أفعل هذا لأنني لو جلست في البيت فلن أذاكر ، ولو جلست في البيت ولم أذاكر سأشعر أنني حقير .. لهذا فالحل الوحيد هو الضياع في الطرقات حتى موعد الإمتحان السعيد ..
يهز رأسه ثم يسألني عن السبب الذي دعاني إذاًَ للنظر في ساعتي .. فأخبره أن هذا رد فعل شرطي لا أكثر ولا أقل ..
شادي أسبابه كانت أكثر إبهاماً بكثير .. ربما من درجة إبهامها ، يمكنك القول أنها ليس لها وجود منذ البداية .. فجأة ، قرر أن لا شيء يستحق أن يُرسم .. وعندما سمعت هذه الجملة للمرة الأولى شعرت أنها مستفزة .. وكنتيجة طبيعية دار جدل طويل ، ربما يمكن تسميته بالشجار المهذب .. انتهى بقوله لي أن "إنت مالك بقا .. أرسم ، مرسمش .. براحتي " .. وهي كلمة سحرية تخرس بها من أمامك بسهولة .. وللأسف لم أكن قد طورت رداً عليها بعد (وهو ما فعلته مؤخراً) .. لهذا قررت أن أخرس . وعرفت بعدها بفترة أنه لم يتخلص من لوحاته بعد ..
من تخلص من كل شيء ، كان أيمن .. عرفت بعدها أن غضبه كان حقيقياً .. "غضب" لأن هذه الكلمة الوحيدة التي يمكن بها وصف إعطاءه كل ما كتبه منذ البداية لبائع الطعمية على ناصية شارعهم .. أي كل ما كتبه منذ البداية .. شعر البدايات هذا المصاب بالكساح ، حيث القضية الأهم ، والحدث الأوحد هو فلسطين . والمصاب كذلك بحالة مرضية تجعل حروف القافية على صورة لا تتغير : ( الأولينا .. الآخرينا .. الأخسرينا .. الأفضلينا) ، ثم تخبطه ، ومحاولاته المتكررة في عدل الوزن ، أو استبدال صيغة غير شعرية بأخرى تقترب أكثر من الشعر .. ثم رسوخه النسبي ، وبدايات كفره بحروف الروي والقافية ، وهي تجارب بدت لي شديدة الجمال والحساسية .. ثم في النهاية امتلاكه للأدوات التي من خلالها يكتب ، والأهم : الرؤية .. منعني شيء ما من سؤاله وتحويل السؤال إلى شجار كما فعلت مع شادي ، وإن كنت عبرت له عن استغرابي ، كون الورق لن ينفع مع الطعمية المتشربة بالزيت .. فطمأنني أنه سيأخذ أكثر من ورقة واحدة طبعاً لصنع قرطاس .. ثم قال بلا أي تعبير :
_ " يعني القرطاس هيرسى على قصيدتين "
أخبرني بفخر أن بائع الطعمية فرح بهذا الكنز .. وإن كان أنقص من سعره قليلاً ،
_ " عشان مكتوب فيهم .. الورق الأببض أغلى مرتين تقريباً "
قلت له أن هذا التصرف يبدو لي غاضباً أكثر من اللازم ، وهذا يحوله إلى رومانسي أكثر من اللازم ، وبالتالي هناك شعور بعدم الأصالة في الأمر .. وكل هذا يحوله إلى مشهد تقليدي من فيلم عربي قديم .. البطل الحزين لابد أن يربي ذقنه ويكتئب في حجرته .. الشاعر المكلوم في قصيدته أو وحيه أو أي هراء من هذا القبيل لابد أن يبيع كتاباته لبائع الطعمية ، ثم يقول لصاحبه وهو بائس ان القرطاس سيحمل قصيدتين .." يا إلهي ! .. كل ما كنت أفعله سيتحول إلى قرطاس" .. يجب أن يقول هذه العبارة وهو ينتحب ولو دمعت عيناه : أفضل وأفضل..
في النهاية اعترفت أنني أجده أذكى من هذا التصرف .. وأكثر وعياً من تحويل شيء كهذا إلى مشهد سخيف من فيلم درجة ثانية ..
نظر لي بلا تعليق ، حتى أتمتت كلامي ثم قال ، أن الحياة ليست قصة قصيرة ، و أن الأبطال فيها _ على العكس من القصص _ أحياناً يفعلون أشياءاً لا مبرر درامي لها .. وأنا لم أستطع الرد ، لأن ردي كان هو نفس كلامي السابق .. كلامه عن الأبطال والحياة والقصص القصيرة ، هو في حد ذاته محاولة للتفلسف لم تنجح كثيراً .. وكذلك لم أستطع أن أقول له أنني محاط حالياً ببشر لا يفعلون شيئاً إلا قول : " الحياة هي " .. و " الحياة ليست " ..
يجذبني شادي من ذراعي ليبعدني عن مسار العربات المسرعة ، مزامناً هذا مع قوله :
_ " مش أيمن هيخطب ؟ "
_ " هذه أخبار جديدة أيها السادة الكرام" ..
_ " تخيل ! "
قالها أيمن وهو يلوي بوزه هازاً رأسه بمرارة ..
إسمها رهف .. وهذا يؤكد أن الأمور تسير بشكل غريب .. لماذا يرتبط الشعراء _ أو من كانوا _ بهذه الأسماء بكثافة .. يبدو هذا سراً ملحمياً يصعب كشفه .. لهذا ابتسمت وهنأته .. وهو تقبل التهنئة بهزة رأس متمتماً أن :
_ " عقبالك "
وأنا تذكرت الرد الذي يعجبني في مثل هذه الحالات وقلت :
_ " في حياتك "
أخبرني بعد أن ترك الرسم تماماً ، أنه يجدها من قبيل سخرية القدر أنني ، وأنا والوحيد الذي لم يأخذ أمر الكتابة بجدية ، مازلت مستمراً في فعلها .. أما هما ، من كانا يقرئان كلام سارتر عن الفنان الملتزم ، والفنان المنتمي ، تركا كل شيء ..
يتحدث هو عن الرسم ، وعن افتقاده لشعور الانتهاء من لوحة ، أكثر مما يفعل الشاعر .. يتصف الأمر ببراعة حين يقول أن أصابعه نظيفة على الدوام ، وهذا يبدو له من قبيل الإهانة ، بعد أن كانت فعلاً لا تختفي منها الألوان .
يسألني إن كنت لا أزال محتفظاً بالكاريكاتير القديم .. أهز رأسي .. وأحاول تذكر مكانه ..
أيمن بدا متململاً بعض الشيء .. سألته إن كان مشغولاً بشيء ما ، فهز رأسه بالنفي .. أقرر بما أنه يكذب أن أقول له ما كنت أفكر فيه من فترة :
_ " كنت بفكر أكتب عنكم من فترة . "
ينتبه ، يضيق ما بين حاجبيه .. ويهز رأسه بدهشة تقترب من الإستنكار متسائلاً :
_ " نعم ؟ "
_ " أنت وشادي "
_ " نعم ؟ "
_ " أي نعم "
_ " إزاي يعني ؟ "
قلت له رأيي مباشرة ، الحقيقة إنها فكرة تستحق .. الشاعر الذي انخرط وسط الناس ، لا يعرف مثلاً جاره في الأتوبيس أنه كان يكتب شعراً .. والرسام الذي لم يعد يرسم .. ولم تعد علامة الجودة الألوانية على أصابعه مثلما كان دائماً .. لا تنكر من فضلك أنها فكرة لا بأس بها أبداً ..
_ " مش قصدي إنها وحشة .. قصدي أنها مكررة .. نفس الفكرة الغريبة .. شفتها في مليون فيلم ومليون رواية "
فكرة فيلم The incredibles بالظبط .. الخارقون الذين منعهم المجتمع من الحياة فيه وهم مختلفون .. فعاشوا كخارقين في ثوب بشر معتادين .. فكرة فعلاً مكررة ..
و احتد قليلاً وهو يطلب مني أن أنضج ..
وشادي هز رأسه ثم رفع أصابعه أمامي قائلاً أنه الآن سعيد .. على الأقل أصابعه نظيفة ..
_ "الكلام عننا ملهوش أي فايدة "
وأنا قلت أنني سأكتب عنهما .. ثم أستخدمت السلاح المتميز :
_ " وانت مالك بقا " .. ثم ضحكت :
_ " هغير الأسماء . وأكتب زي ما أنا عايز .. ممكن حتى أسميك عبد العال .. واسمي الأخ دا حمودة .. وأطلعكم متخلفين عقلياً من صغركم .. أو من مجاذيب السيدة حالياً "
ثم هززت كتفي قائلاً أن الحياة على عكس القصة .. يفعل أبطالها أشياءاً لا يوجد لها أي معنى .. ككتابة القصص عن أصدقائهم .. وهي أفعال في الواقع لا مبرر درامي واضح لها .

الأحد، 30 نوفمبر 2008

سمّعنا صوتك


كنت أكره هذا الكلام بغرابة .. لا .. التعبير السليم ليس : "أكره" .. ولا حتى أشمئز .. ربما هو القليل من "أختنق" على الكثير والكثير من "أحتقر" .. والقليل من الأول هدفه التأكيد على حالة تخرج من كونها نفسية إلى الواقع الملموس وتستقر في حلقي مباشرة .. والكثير من الثاني هدفه طبعاً محاولة تفسير لإبتعاد نظراتي عن وجه من يحدثني .. وهو الفعل الذي يمكن تفسيره كذلك على أنه سمت التفكير . لكن لا ..
ابتسم في حكمة وهو يقول ، أن هناك لحظة يتوقف فيها ما يحدث ، ويحدث ما لم يكن يحدث ، وانا فكرت في هذا الكلام للحظات ، وتوصلت إلى أنه هراء لا أكثر ، أو هو محاولة بلهاء لإدعاء أنه ليس هراءً ..
لم أرد .. استمر في الحديث مصمماً ، أن الشاب مامي _مثلاً_ لم نعد نسمع له حساً منذ فترة لا بأس بها .. وتنهد وهو يقول ، حال الدنيا ببساطة ..هز رأسه بعد أن أنهى جملته وصمت .
بعد فترة تذكرت ان الشاب مامي سمعت حسّه منذ فترة لا بأس بها .. هو حتى غنّى أغنية لا بأس بها مع إليسا أستغل كونها مزة حقيقية لا بأس بها .. فكرت أن الأغنية كانت جميلة فعلاً لا (لا بأس بها) فقط . وأنني حتى سمعتها لفترة .. أينعم كنت أعرف أنني لن أستمر كثيراً في هذا لكن هذا لا ينفي أنها بدت مميزة للحظات ..
هو مثلاً ليس كرامي صبري الذي مازال عنده القدرة ، والشجاعة ، على ترديد كلام مثل "قولي ألاقي أنا زيك فين" ..
فكرت أن هذا هو مربط الفرس .. وأن الشاب مامي لا بأس به ، ورامي صبري شبة عمرو دياب ..
قلت له كل هذا الكلام ، استغربت أنني لم أبذل مجهوداً شديداً في إقناعه ، إنتهى الأمر بي منتصراً .. وأنا تساءلت بعدها عن معنى كلمة مربط الفرس التي فكرت فيها منذ ثوان ٍ .. فكرت في سؤاله عن معنى الكلمة .. لكنه ، وبصدفة غير مبررة منطقياً ، سألني هو عن مشكلة قول كلام مثل : "قولي ألاقي أنا زيك فين " ؟ .. وانا ابتسمت في حكمة وقلت له أن هذا هو ، ببساطة شديدة ، مربط الفرس .

الخميس، 20 نوفمبر 2008

يـبـدو


وقال بنبرة جديدة مستسلماً :
_ " أتدري يا بني ، يبدو أن أكبر خطأ نرتكبه في حياتنا هو الإعتقاد بأن الهدف هو السعادة "




(نجيب محفوظ _ عصر الحب )

الاثنين، 3 نوفمبر 2008

شـمـس الشـمـّوسـة


بالطبع تذكرين ذلك اليوم ..

واقفين كعادتنا نتبادل الحديث في هدوء , ربما بثقة الفلاسفة , وسكينة رهبان التبت , لهذا .. ولهذا فقط .. تصبح انفعالاتنا شيئاً ثميناً حين تحدث .. شيئاً يكسر الهدوء المخيم على كلينا , وعليّ أنا بالذات حين أكون معك ِ

كان اليوم مشمساً , تذكرين ؟!

أحيانا ً تغيب الشمس ، فقط لتعرف كم نفتقدها على الأرجح ، و أحياناً ، تفرض حضورها حتى يصبح مقيتاً ، كريهاً , غبياً بلا حد ..
كان اليوم مشمساً ، مقيتاًَ إذاً ..
ولا أعرف بالضبط لمَ لم ْ نقف في مكان أقل تعرضاً للشمس من هذا المكان المفتوح تماماًَ ، غير المحدد بأي شيء من أي اتجاه .. فقط الشمس من فوقنا هي الشيء الوحيد الذي يشي لنا ، بمعنى كلمة (فوق) ..
الشمس كانت تستعرض قوتها بشكل غير محتمل ، هذه القوة التي يجب أن تعرف أنها ليست بحاجة لإثبات من الأصل ..

كنت أنا واقفاً ، ظهري للشمس ، وجهي ناحيتك ِ .. ربما كما أفعل مع كل أزمة أمر بها .. أعطيها ظهري ، بكل بساطة .. قبل أن أحرك قدميّ طبعاً ، مستعداً للركض بعيداً عنها ..
وأنت ِ واقفة أمامي .. بالظبط أمامي .

والشمس تسقط عليّ ، فتصنع الظل ، الذي تعلوه كرة ما ، هي رأسي ، التي يسقط ظلها , هي تحديداً ، على وجهك ، فيصبح بإمكانك ساعتها أنا تفتحي عينيك مباشرة ، و أنت ِ تنظرين إلى وجهي ..

كنت سعيداً بالطبع ، لا أنكر هذا ، و أنا أتأمل وجهك ِ الناظر لي ، و الذي لم تحركيه لحظة ، عن وجهي ..
عدم التحريك هذا ، بدا لي غير طبيعي ، في البداية ، ثم تجاهلت هذا الخاطر سريعاً ،

لكني ، فجأة ، شعرت باستغراب ، أجرؤ أن أسميه خوفاً ..
الاستغراب كان لأنني تغاضيت , في البداية , عن عدم طبيعية أمر ما ، وهذه الأمور بالذات تصيبني بشعور يشابه شعوري حين أحك الفوم ببعضه ، أو أسمع صوت حركة أشياء صدئة على بعضها البعض ..

الخوف كان هو الأوضح ..والأمر كان سؤالاً بريئاً : هل تنظرين لأنك تريدين ذلك ، أم لأن نظرتك لأي شيء آخر تعني الشمس ؟!

أكره استغرابي هذا ، الذي أجرؤ أن أسميه خوفاً ، ولكن من المستحيل أن أتجاهله في هدوء ، وأفكر في شيء آخر ..
حينما يأتي ذلك الشعور اللعين ، لا يصبح بإمكاني إلا الانصياع في هدوء ، وبلا أدنى مقاومة ..

تحركت ببطء من مكاني .. درت نصف دائرة .. الغريب أنك لم تعلقي بأي شكل ، الغريب أنك تقبلت ما يحدث باعتباره شيئاً عادياً ، الغريب أن هذا أسعدني ..

لم تبدلي من وضع وقوفك على الإطلاق .. فقط كنت تدورين معي ، مستكملة حديثك بهدوء تام ، وأنت تنظرين لي ، وأنا أدور نصف دائرة قطرها أكبر من دائرة وقوفنا ..

الآن وصلت حيث كنت أرغب .. وظللت أنت مكملة حديثك دون أن تغيري من نبرة صوتك ..
تابعت حديثك ، الذي أضعت نصفه ، والذي بدا أنه مهم جداً ، من كلماتك المتلاحقة ، التي بدأت تمييزها ، ومن نبرة صوتك ، التي لم تتغير ، ولكني لاحظت أنها كانت عالية بعض الشيء ..

انتبهت أننا الآن نقف في وضع غير متعرض للشمس على الإطلاق ، وأنها أصبحت على جانبنا ، مستأنسة الضوء تماماً ..
لكني فجأة شعرت باستغراب أشد ، أجرؤ بثقة أكبر أن أسميه خوفاً ..

بدا لي أنك تتلفتين كثيراً حولك ِ ، وأنك تتكلمين ، وأنت تشيحين وجهك بعض الشيء .. ولم أعد أستطيع تمييز طريقتك الطبيعية في التعبير بالوجه واليدين ، عن حركاتك الغير طبيعية ، التي انتابني شعور أنها موجودة .. رغم عدم قدرتي على التمييز فجأة .. بالأحرى لم أعد أعرف ما هو الطبيعي وما هو الغير طبيعي .. والغير طبيعي دليلي القوي أنه موجود ، أنني اشعر بهذا بقوة ..

مباشرة فكرت فيما يجب فعله ، للتأكد من كونها طبيعية أو غير طبيعية ، وكيف يجب فعل هذا دون أن تشعر هي بما يدور في دماغي ، لأنها لو عرفت ، فالطبيعي سيتحول لغير طبيعي ، والغير طبيعي سيتحول إلى طبيعي طبعاً ، وهو ما يبدو غريباً ، كيف يتحول الغير طبيعي لطبيعي بهذه البساطة ؟ .. هكذا يتصرف الإنسان ببساطة حين يشعر أنه مراقب ربما ..

لم أسترسل في فكرة الطبيعي للأسف ، لأني لاحظت أنها توقفت عن الحديث ونظرت لي صامتة . انتبهت بعد فترة من الصمت ، أن ما يخيم علينا ، هو الصمت فعلاً ..
حاولت بطريقة مثيرة للشفقة أن أرسم بسمة بلهاء على وجهي ، لكنها لم تسمح لتلك البسمة بالاكتمال :
_ " أنت لست هنا نهائياً ؟ "

حاولت ، مرة أخرى أن أرفع ملامح وجهي ، وأن أحرك عضلات البسمة على وجهي ، لكنها أجهضت المشروع تماماً حين عادت تقول :
_ " انت أصلاً لا تنظر لي "

وأنا تذكرت هنا ، أنني كان لابد أن أنظر لها وأنا أفكر في كل هذه الأفكار ..
حين أكون غير طبيعي ، يجب أن أتظاهر أنني طبيعي ، هذه هي القاعدة ببساطة .. ياللغباء !

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2008

خذني لأكبرَ , خذني لتصغرَ


قال لها: ليتني كنت أصغر...
قالت له: سوف أكبر ليلاً كرائحة
الياسمينة في الصيف
ثم أضافت: وأنت ستصغر حين
تنام، فكل النيام صغارٌ، واما أنا
فسأسهر حتى الصباح ليسودَّ ما تحت
عينيَّ. خيطان من تعب متقن يكفيان
لأبدو أكبر. أعصر ليمونة فوق
بطني لأخفي طعم الحليب ورائحة القطن.
أفرك نهدي بالملح والزنجبيل فينفر نهدايَ
أكثر /
قال لها: ليس في القلب متسع
للحديقة يا بنت... لا وقت في جسدي
لغدٍ... فاكبري بهدوءٍ وبطءٍ
فقالت له: لا نصيحةَ في الحب. خذني
لأكبرَ! خذني لتصغرَ
قال لها: عندما تكبرين غداً ستقولين:
يا ليتني كُنتُ أصغر
قالت له: شهوتي مثل فاكهةٍ لا
تؤجَّلُ... لا وقت في جسدي لانتظار
غدي!




( قال لها ليتني كنت أصغر .. محمود درويش )


الأحد، 21 سبتمبر 2008

.. ولا حتى


معرفش ليه تنحت للدنيا كدا
وفجأة لقيتني مسكون بالملل
لا عندي رغبة في البكا ولا في الكلام ,
ولا عايز أنام ,
ولا حتى بسأل إيه دا إيه ، و آخرتها إيه ، وإيه العمل ..
حالة كدا ..
وأخاف أقول لأي حد .
أحسن يقوم يقلبها جد ..
حد صاحبي ينزعج ,
يمد إيده جوا قلبه من باب الكرم ، عشان يشاركني الألم ..
أو يستلف لي من لئيم حبة أمل ..
حالة كدا .. معرفش إيه ..
حالة كدا , ملهاش معاد ..
ساعات تزورني في الشتا , في الربيع , في الحر ,
و في عز الشتا ..
وتجيب حاجات لا فيها روح ولا ميتة ..
حالة كدا ..
لا معاها ينفع كلمتين , ولا غنوتين
ولا لقطة من ألبوم صور ,
ألاقي قلبي في الهوا ويّا الكور ..
أخاف أقول لأي حد , أحسن يقوم يقلبها جد ..
حالة كدا , معرفش إيه
لكني برجع منها بعد السكات , فاكر شوية , فاهم شوية في اللي فات
حاسس أوي بحضن الصحاب ..
محظوظ انا ..
سعات بشاور يتفتح لي ألف باب ..
لكني برجع , وبغلط في الحساب ..


( حالة كدا .. علي سلامة )

السبت، 13 سبتمبر 2008

* دا جـنـان دا ولا إيـه ؟


يفترض الآن , في الجمل القليلة القادمة , أن أقوم بعملية تفريغ لأحداث يوم حافل , حافل لدرجة غير منطقية أحياناً . أن أذكر المواقف الهامة , التي تهم من حضر , وأن أحرص في الوقت ذاته , على الشرح التفسيري المرفق بجمل من طراز : (أنظر شكل 15-أ) .. حتى لا يشعر من يقرأ هذا الكلام , وهو طرف محايد , لا يعرف شيئاً , بالغربة , هذا مع الأخذ بالإعتبار , أن من يقرأ هذا الكلام , سيجد صعوبة أساساً في فهم ما هو الشيء الذي حضره الآخرون , وما هو سبب حضورهم , ومن هم أساساً ؟! , هذا غير السؤال الذي سيصول ويجول بحرية تامة في رأسه لفترة من الزمن _ستطول غالباً_ .. غالباً سيقول بعد فترة من القراءة التي لن تكون شديدة المتعة بطبيعة الحال : " أنا مال أهلي بكل الكلام دا ؟ " .. وهو سؤال منطقي فعلاً .. لهذا , صديقي الحكيم (وهو لقب يستحقه فعلاً .. لأن هذه الأفكار لو لم تراوده فهو إما غبي أو متطفل ) , الذي ستراوده هذه الأفكار الحكيمة و الذي يقرأ كلامي الحكيم , أقول لك يا صاحبي : بإمكانك الإبتعاد منذ الآن , صدقني ستجد شيئاً ما على mbc action أو , ربما , يكون فيديو كليب هيفا قد رحم منتظريه وظهر أخيراً .. وهي كلها أشياء , أضمن لك , أنها أروع ..
ولكن هناك إحتمال بسيط , ربما لا يمكن رؤيته بالعين المجردة , أن أقول كلاماً هاماً هنا , خاصة لو تحدثت معك عن عم سعيد المجنون :
ركز بقا معايا كدا في الكلمتين دول ..
عم سعيد المجنون لم يبد عليه في البداية أنه مجنون .. هو كان يمتلك ذقناً شائبة ذكرتني مباشرة بمارسيل خليفة , ولو أن ذقن عم سعيد المجنون موحية بالجنون بالفعل , وهي الإشارة التي لم ألتقطها في البداية , ودفعت ثمن غبائي ساعة ونصف تقريباً من الرعب .. كما أنه _بصراحة يعني _ لا يُشترط أن تمتلك ذقناً كمارسيل خليفة , كي تكون مجنوناً , الأمر يحتاج إلى مجهود شديد منك .. ولكنها خطوة لا بأس بها على كل حال .. المهم أن عم سعيد عندما تأكد من أن الجميع متوجهون إلى نفس المكان , وشرب سيجارة الله أعلم بمدى براءتها , وحبس بكوب من الشاي الله أعلم بمدى كمية الأفيون التي تذاب فيه , وتشاجر مع رجل ما , وصفع الفتى البائس الذي كان يمسح عربته البيجو السبعة راكب , على قفاه , وجأر بشيء ما , من قبيل إثبات سلطته , كما تفعل الأفيال بالظبط .. جلس جواري (وهي غلطة من ناحيتي أن أجلس جوار سائق العربة البيجو , لكن ساعة القدر يعمى البصر) .. والتفت لي مباشرة , وقال بعينين ناعستين :
_ " إزيك يا أستاذ ؟ "
_ " أهلا وسهلاً "
_ " أهلاً أهلاً
_ " أهلاً "
_ " كح .. ااااكح .. أحم .. كح كح كح .. "
_ " ليلتنا سودا إن شاء الله " .. وهي العبارة التي لم تخرج من فمي قط .. لست مجنوناً كما قلت ..
عندما بدأ عم سعيد المجنون قيادة العربة , عرفت أنه مجنون ..
أصطدم مرتين بالرصيف , وسألني عن : " إنت شايف حاجة على شمالك ؟ "
قلت له أنني لا أرى أي شيء هذا إلى جانب أنني على يمينه أساساً .. أي أنني أراه على شمالي .. هنا إبتسم بغرابة وقال :
_ " سبحان الله يا شيخ "
تصعبت أنا وأنا أقول
_ " لا إله إلا الله "
وأكملت في سري مؤكداً : " أنا هروح بلاش "
** ** ** **
تتميز داليا يونس بشيء شديد الأهمية , أنها تعيش ما تؤمن به , وهي الميزة التي يصادفها المرء في أشخاص , مرات قليلة فقط , يمكن حتى عدها بمنتهى البساطة , لهذا السبب تحديداً , لم أندهش كثيراً عندما عرفت أن علي وداليا , وهما من سأتحدث عنهما بالضرورة , قد قررا أن يكون حفل خطوبتهما في الأزهر بارك .. لا داعي رجاء للتساؤل عن سبب تسميتها بالـ"بارك" بدلاً من الـ"حديقة ", فحرف القاف صعب بعض الشيء ! .. وهو _لله الحمد_ يتحول إلى الكاف تلقائياً في الـ"بارك" دونما محاولة ..
التحدث عن داليا صعب بعض الشيء , فهي مزيج من صديقة عزيزة , وأخت أمارس معها كل سخافات الإخوة .. هذا حينما لا يغلبها دورها التربوي فتتحول إلى ناظرة مدرسة .. وهي حالات لا ينصح فيها بالمناقشة معها على الإطلاق ..
المهم هنا أنني سأقول عن داليا أنها من الشخصيات التي قد "أسمع" منها , وأهتم برأيها .. وهو الشيء الذي لا أفعله مع كثير من البشر ..
هذا سيقودنا إلى الحديث عن علي .. وهو ما سيجعلني أترك علي للحظات , وأتحدث عن علي عليوة , وأقول أنه: " ضرب الزميرة .. وضربها حربي , نطت في قلبي " .. كما قال محمد منير في تفسيره لشخصية علي , في مسرحية الملك هو الملك ..
يتميز علي بميزة مهمة جداً , أنه رجل .. أكره أن أحول كلامي إلى سلسلة متصلة من المديح , لكن الحقيقة أن علي موسى هو رجل بحق وحقيقة .. حينما حاول الحضور أن يقوموا بذكر إنطباعاتهم عن الطرفين , داليا وعلي , تكررت كلمات مثل الشهامة والمجدعة والرجولة بصورة مستمرة في حديث الجميع , وهو ما أكد إنطباعي الأول عنه .

** ** ** **

تتميز الأزهر (بارق) , أنها متسعة لدرجة تؤلم العين أحياناً ..
من يعيشون مثلي في غابات إسمنتية يعرفون معنى أن تنظر في الأفق ( مع ملاحظة أنه يوجد أفق أساساً ) , ولا تجد شيئاً على مرمى البصر إلا الأشجار , والأشجار ,والقليل من الأشجار .. وبعض الأزهار الملونة الأنيقة .. تعلو كل منها بطاقة أنيقة تقول شيئاً على طراز: ( دالاكتوتاطوليا .. قرفة مجففة ) .. هذه الأزهار تحتاج شخصاً مثل "مونية" لكي يوصل الشعور بها , لكنني , ولأني لا أرسم , سأكتفي بالقول أنها حمراء , وصفراء , وزرقاء , وخضراء , وسوداء(صدق أولا تصدق) , وبرتقالي (أرونج بالعربي) , وتركوازي (تخيل !) , والمزيج من كل هذه الأشياء .. يعني , حمراء وصفراء , وحمراء وزرقاء , وحمراء وخضراء , و.. فلنكتفي بالقول انها ملونة ..
هنا بدأت ماكينات الحقد في داخلي تتحرك .. عندما تصل داليا لسن السبعين بعون الله , ويجلس أحفادها بجوارها لتحكي لهم عن حفل خطبتها , أبسط شيء يمكن أن تقوله أن الفرح كان في حديكة.. اللعنة .. أقصد حديقة بهذا الإتساع , وهذا الجمال , هذا لو لم يتم هدمها ساعتها وتحويلها إلى مول , أو على أقل تقدرير جراج .. لندع الله أن يكتفوا بالمول فقط ..
ما يميز أي فعل "مجنون" هو إمكانية التحدث عنه بعد ذلك .. إمكانية التحدث عنه بالتحديد هو ما يجعله "مجنوناً" .. تخيل معي وأنت تصف حفل خطبتك _ أعلم أنه هذا خيال علمي لكن خليك معايا_ لطفلك الوحيد وتقول كلاماً من طراز : " تيته بقا كانت معانا .. خالتك برضة كانت معانا .. أما بقا عمك , كان برضة معانا .. وعملنا الخطوبة في قاعة ترللي .. كان يوم حلو اوي حقيقي يا فتح الله "
المشكلة أن فتح الله سمع ألف مرة هذه الحكاية , كما أنها لا تختلف كثيراً _صدقني _ في أي شيء عن الحكايات التي سمعها من أصدقائه .. في الواقع هي لا تختلف بأي شكل كان إلا في الأشخاص ..
نحن نتحول إلى قوالب متماثلة بشكل مستمر .. هذه هي الحقيقة .. انا أفعل مثل حسين .. حسين يفعل مثل عبد التواب .. عبد التواب يفعل مثل صلاح .. وصدقني , (فتح الله) سيفعل مثلهم جميهم ..
المشكلة أنه لا يوجد من يتوقف للحظات ويسأل نفسه : إيه التخلف العقلي دا ؟
أو على أقل تقدير : " هل هذا هو فعلاً ما أود فعله , أم أنه العادي "
ليس دوري هنا أن أقول : تحدى المجتمع , وانتصر على التقليدية , لانه لا توجد عندي أي مشاكل مع المجتمع , كذلك انا أعتبر التقليدية شيئاً لا بأس به .. شرط أن يكون جيداً , وأن يكون من إختيارك الحر ..
لو كان إختيارك الحر هو ما يقرره المجتمع , فبها ونعمت , وكفى الله المؤمنين شر القتال .. لكن لو كان العكس .. ربما يجب أن تعيد التفكير ..
المهم ,
تتميز حديقة الأزهر كذلك بوجود أشياء تسمى البرجولة .. هذه البرجولة هي مكان متسع , مظلل (وهذه نقطة هامة جداً) , فيه كراسي خشبية , بتصميم جميل .. سبب ذكري للبرجولة هو _طبعاً يعني_ أننا جلسنا هناك ..
هنا , آسف والله , لازم أرجع مرة أخرى للحديث عن مسألة الإختيارات , وإختيار ما يريده المرء تحديداً , وهنا انا لا أقصدك تحديداً والله , انا فقط أحكي كطرف محايد , أو متظاهراً بذلك ..
ما فعلته داليا وعلي بعد ذلك , هو أنهم جمعوا جميع الأصدقاء في مكان واحد ..
أنت تعرف حفل الخطوبة التقليدي حين يأتي جميع الأقارب ليتظاهروا بالسعادة , ويتم أخذ الصور كثيراً كثيراً كثيراً كثيراً , ليثبت كل منهم أنه حضر .. ثم يعجز العريس أو العروسة عن تذكر من حضر في النهاية ..
كل هذا , وكل هذا يعني حق المجتمع الذي لا يمكن التملص منه , تم تأديته على أكمل وجه , تبقت الآن المسألة الأخرى : الغلابة .. الأصدقاء .. الأشخاص الذين لا ذنب لهم أنهم ليسوا أقرباء للعريسين .. كان الحل هو حديقة الأزهر لتجميع كل مقاطيع مصر ..
تحت البرجولة (أو الياسمينة كما يرى محمد منير) جلسنا ,
بدأ الأمر بحفلة تعارف بسيطة , و هنا لابد من وقفة .. كما اتفقنا , طالما قمت بشيء غير تقليدي , فمن حقك أن تقوم بكل الأشياء غير التلقيدية , المتضمنة في هذا الشيء غير العادي ..
تدهشني فعلاً مدى إتساع دائرة معارف داليا .. وهو ما يختلف عن علاقات علي بعض الشيء .. علي , كإنطباع أولي بحت , تتميز علاقاته بالثباث أكتر , وبالقلة النوعية , إلا أنها قلة مكثفة كما يقال ..
الطريف هنا أن حفل التعارف البسيط , كان يتطلب أن يتلو كل شخص يعرف نفسه , دعاءاً ما , يلتقطه من كيس ممتليء بالأدعية .. تم إعدادها مسبقاً .. هذا المزج بين ما يؤمن به المرء , وبين لحظاته شديدة الخصوصية يدل على أصالة ما .. وهو شيء يثير الإحترام مهما كان الرأي مخالفاً ..
بعد هذا التعارف , الذي شرح إلى حد كبير , الصورة كلها .. كان الأمر شبيهاً بقصة متعددة الرواة .. كل راوي يضيف شيئاً , يقول لمحة ما , عن الأسباب التي جعلتنا , نحن الحضور , في النهاية نحضر حفل خطبتهما .
** ** ** **
لماذا لا نتحدث قليلاً عن روعتنا , معشر المنظمين ؟!..
حسناً .. فلنبدأ كذلك من البداية (أرجوك تحملني قليلاً .. من حقنا أن نتكلم عن أنفسنا كما يفعل الجميع) ..
داليا اتصلت بي قبل الحفل بحوالي أسبوع لتخبرني بأسلوب شبية بأساليب إختيار أفراد العصابة في فيلم شمس الزناتي : " إنت معانا في الليلة دي "
هنا لابد من قول شيء آخر عن داليا . أنها مغرمة , فضلاً عن السينابو(حاجة زي كحك العيد كدا) و التوعية و الفشار , بشيء أسمه مجموعات العمل .. أعتقد جازماً , أنها تقوم بعمل مجموعات عمل عندما تغسل أسنانها كل ليلة ..
ما علينا برضة ..
المهم أن داليا , وحتى تحصل على لقب أغرب حفل خطوبة في التاريخ , قامت بعمل مجموعات عمل , وظيفة كل مجموعة منها شيء معين .. كان حظي السعيد هو الذي أوقعني في المجموعة المختصة بتحضير الأغاني وما إلى هذا , هذا إلى جانب ما أفعله الآن .. أي سرد أحداث اليوم .. كاتب محكمة يعني .. وهو الإختيار الذي ستندم عليه عندما تقرأ هذا الكلام ..
كان أحمد أشرف هو المنسق العام لحركة كفا..(الواد راح في داهية) .. أقصد أنه كان المنسق العام لنا .. وهو من قام _حقيقة_ بدور خارق , وصل لدرجة أنه ذهب إلى مكان ما , مسافة تبعد حوالي الساعتين فقط من اجل تورتة مسكينة (وماكلنهاش كمان) .. لهذا فالمسألة منتهية .. هذا الفتى نادر فعلاً ..
كان معنا كذلك (نورا الجندي) , وهي قنبلة موقوتة حقيقية , يرى المرء عدادها على جبهتها .. هي ستنفجر أدبياً يوماً ما , وستكتب شيئاً عبقرياً يوما ما , وستجعل الجميع يجلسون في بيوتهم يأكلون السوداني
..
ما أود قوله تحديداً , هو ان تعب حوالي 5 أيام راح يا ولدي .. كنا يومياً نجلس لتحضير بعض الأغاني .. وهذا يعني أننا نفاضل بين أغاني , ونحمل أغاني , ونتحدث عن أغاني , ونشرح الأغاني , ونضحك على الأغاني , ونذكر كلام الأغاني لمن لا يعرف , ونتشاجر على الأغاني .. أي أننا قضينا أياماً لا يقضيها طلاب الكونسرفاتوار أنفسهم , وسط عدد مهول من الأغاني .. وفي النهاية إتفقنا على إسطوانة بريئة المظهر , عظيمة المحتوى ..
الجميل , الرائع , الصدمة , أن كل التعب ذهب ببساطة .. أحياناً أشك أنني كلما عملت بجد , وأخلصت العمل لابد أن تحدث مصيبة كونية .. وهو ما حدث حقيقة ..
لا .. لا تسيء بنا الظن أرجوك .. بالطبع لم ننس اللاب توب .. لسنا بهذا الغباء يعني .. نسينا السماعات ولله الحمد ..
وكانت النتيجة أننا قضينا ساعات ننظر فيها للإسطوانة بحسرة , ونسمع صوت اللاب توب الضعيف ونكاد نبكي .. عرفت الآن فقط , وجهة نظر المدخن الذي يلقي بنفسه من النافذة حين يكون معه سيجارة , وطفاية , وينسى الولاعة ..
** ** ** **
عم سعيد المجنون بعد ان تفادي عربة نقل عملاقة , خرج برأسه من النافذة .. نظر إلى الوراء , وشتم عدة شتائم متنوعة تصيب هدفها بدقة .. ثم جلس وهو يلهث .. كان لوني ساعتها تحول للون الأصفر , وأنا أرى العربة الملاكي أمامنا , والتي تفاداها ببراعة شديدة , ثم مال علي وقال :
_ " لا مؤاخذة يعني يا دكتور .. "
كنا قد تعارفنا في هذه الفترة .. وعرفت أن أسمه عم سعيد , وقال لي أنهم يسمونه المجنون , لأنه "مبيعرفش أبوه في السواقة" , وانا ضحكت وأنا أفكر في أبوه الذي غادرنا لابد تحت عجلات شيء ما .. لهذا , حينما قال عبارته هذه , قلت له بصوت مرتجف بعض الشيء (ناجي من موت مؤكد) :
_ " نعم ؟ "
_ " لما بمشي في الدخان لامؤاخذة , وهباب العربيات وكدا .. بحس إن صدري بيضيق "
وأنا نظرت له ببلاهة .. ما الغريب يعني ؟ .. فكرت في وجوب قول شيء محسوب حتى لا نذهب كلنا إلى حيث لا يشمون هباباً ولا غيره .. قلت له :
_ " حاول ما تمشيش في الـ .. في الهباب كتير "
وهو هز رأسه , ومصمص شفتيه وقال :
_ " سليم والله "
ومط شفتيه إلى الأمام فتحول إلى غوريلا بشرية .. ثم حرك يديه بإسطوانه ما نحو الكاسيت , وضعه ليتصاعد فجأة صوت رائع يحكي عن :
" جوجوجوجو
يابا يا با يابا
الاولة في الغرام بسم الاله ناديت وانا بغني
استغفر الله العظيم على ما جرى مني "
ثم يحكي قصة سعيدة عن العبد والشطان (ليس "الشيطان" من فضلك .. الشطان)
** ** ** **
بعد الأكل .. جلس علي وداليا جوار بعضهما على المدرجات .. بحركة شديدة التلقائية , كانت هي تأكل غزل البنات , وكان هو يأكل الفيشار .. تم إلتقاط هذه الصورة من أكثر من مكان .. ربما هذا يلخص الأمر كله .. يقول ساراماجو في بداية كتابة الذكريات الصغيرة , وهو سيرته الذاتيه : دع الطفل داخلك يخرج للعالم ..
هذا هو الأمر بكل بساطة , وبلا كلام لا معنى له .. هم فعلوها وخرج الطفل منهما بشكل لا حد له , كما يجب في الحقيقة ..
** ** ** **
ملحوظة أخيرة للجزء التربوي من داليا :
عادي يعني الواحد يتابع سلاف فواخرجي من غير ما يبقا عينه زايغة .. المسلسل مهم جداً تاريخياً , وجمالياً في الحقيقية .. أقصد الكادرات طبعاً : )
** ** ** **
( * ) : طبعاً الجملة مأخوذة من الفيلسوف الشعبي سيد .. وصديقه عالم الطب النفسي , طمورة

السبت، 6 سبتمبر 2008

فـسـتـان وجيـبـونـة


كنت في غاية التعب , ربما لهذا لم ألحظ أن صديقي توقف فجأة عن السير إلا بعد أن تحركت مسافة لا بأس بها . لم يبد هذا غريباً , حين ينمو إرهاقي بشكل أسطوري , تصبح مسألة إدراكي لما يحدث حولي في حكم عجائب الدنيا ..
نظرت خلفي , وجدته واقفاً , يبتسم , وينظر عبر الشارع للناحية الأخرى , مددت بصري , وانتقلت لي مباشرة عدوى الابتسام هذه .
" ابتسام " .. هكذا تمتمت , وسط ضحكة صغيرة احتلت وجهي , وتركت بقايا ابتسامة بعدها , وأنا أتحرك لأعود للمكان الذي توقف فيه صديقي متابعاً إياها .
لفترة طويلة نسبياً , كنت أرى ابتسام بشكل يومي .. نقضي _كمجموعة عمل _ ما يقارب السبع ساعات . استمرت مجموعة العمل هذه ما يقارب الستة أشهر , ضحكنا فيها ما يقارب الخمس والنصف كما قال مديرنا في الجلسة الختامية , وهو يرمق الجالسين بنظرة لوم , قبل أن يثبت تلك النظرة على ابتسام تحديداً , بنظرة عتاب لم تفلح في إخفاء الضحكة المستترة خلفها , تلك التي انفجرت عندما قالت ابتسام بجدية شديدة أن نصف الشهر هذا هو الفترة التي قضاها هو في الخارج , وأننا أتممنا المدة بأكملها ضحكاً والحمد لله .
عند انفصال المجموعة , نالت هي أكبر كم ممكن من الهدايا يمكن تخيله .. لم أندهش كما فعل واحد منا وهو يرمق الهرم الصغير من العلب , زاهية التغليف , على مكتبها .
ابتسام كانت ملكة متوجة , لها حكمها الشامل علينا جميعاً , بلا أدنى شك ..
وقفت أنا وهو ننتظر عبورها الشارع .. ذلك العبور الذي تأخر قليلاً , ليس من كثرة العربات المارة , بل من خوفها الطفولي هذا . ضبطتها أكثر من وهي تنظر نحو اليمين مرة ثم نحو اليسار , رغم أن الشارع كان في الواقع ذو اتجاه واحد لا غير.
ضحكت , وصممت أن أقول لها هذا الأمر لأثبت لها أنني لازلت صاحب الملاحظات الذهبية كما كانت تطلق عليّ ..
ثم تحركت أخيراً , وبدأت تقطع الطريق .
كتمت ضحكتي بصعوبة , وأنا أرها تجري , فيرتج جسدها بوضوح , هي نفسها كادت أن تضحك .. كانت تضم شفتيها , وعلى وجهها ملامح ضحك لا شك فيه , وهي تنظر أثناء حركتها نحو السيارات ..
مباشرة , توقفت أمامنا .. وجهها مندى بالعرق الخفيف .. قالت وهي تصفق بيديها مرة واحدة , وكأنها تفاجئنا :
_ " أجمل من في الحفلة مين ؟ "
ضحكنا بصوت عال ٍ معاً , قال مغالباً ضحكاته :
_ " دبدوبة التخينة "
أكملت وهي تصفق ثانية , مرة واحدة كما الأولى :
_ " نطي نطة يا دبدوبة "
ثم أكملت سريعاً :
_ " إزيكو يا عيال "
_ " إزيك انتي ؟
_ " زي القمر طبعاً .. الحمد لله " .. قالت , ثم أكملت ضاحكة :
_ " بعمل ريجيم صحيح الأيام دي "
ضحكنا بشدة , وكأننا لم نفترق إلا لراحة الغذاء لا أكثر ..
قلت بعدها حين صمتنا ,وأنا أبتسم :
_ " إنتي كدا زي الفل .. كفاية الطلة "
كانت " الطلة " هي أحد تعبيراتها المعتادة عن الجمال كما تراه هي .. كنا نقضي ساعات سوداء معاً وهي تحاول أن تقنعني بجمال فتاة على حساب أخرى من مجرد الـ " طلة " .. ذلك التعبير الذي لم أفهمه حتى الآن , كما تراه هي ..
لكي أفهم أي شيء , لابد من تفهمه , وتخيله تماماً , وهي ترى هذا عبطاً , وتخلفاً عقلياً في دماغي , وهي الملاحظات التي تقولها لي بلا أي حرج أو تخوف ..
لكن المهم أنها ضحكت حين قلته ..
_ " الله يكرمك يا سيدي .. " قالت ..ثم أكملت :
_" وطلعتوا فيكوا الخير , وفاكرين أهو "
انخرطت بعدها في حديث باسم معه .. صمت أنا وشردت للحظات كالعادة ,
ولكني وجدتها فجأة تقطع كلامها معه , لاحظت هذا لأنه كان مستمراً في التحدث حين نظرت لي وقالت وهي تضيق عينيها :
_ " بس مفيش مانع يعني , أخس شوية كدا "




الخميس، 21 أغسطس 2008

تـا فـا تـيـفـي تاتـتـي



و أنا أعتدلت فجأة من مكاني , وابتسمت إبتسامة الظافر أخيراً .. رفعت راحتي يديّ , بطريقة ( فلنهدأ قليلاً ) , هي صمتت للحظات , وانا وجدتها لحظات يجدر بي إستغلالها على أكمل وجة .. قلت مباشرة , رافعاً طبقات صوتي في مرحلة تقع بين (الصراخ) و (العادي) :
_ " إستني بقا عليا , هقولك أهو "
حركت ملامحها , ممتعضة بطريقة ( خليك مع الكداب , لحد باب الدار ) , وأنا حاولت ألا يؤثر هذا عليّ , وأنا أستخدم سلاح المثل :
_ " شوفي بس .. غالباً , لما تكوني عايزة تدوري على حاجة في النت , بس.. يعني .. حصل يعني .. "
وقطعت جملتي , وأنا أرفع كتفي , متزامنة مع حركة راحتي يدي قائلاً :
_ "عادي يعني , أنك كتبتي عنوان جوجل غلط في صندوق العناوين .. هيحصل إيه بقا .. صفحة النت بارك الله فيها , هتبعتك علطول على جوجل .. ليه بقا ؟! "
رفعت حاجبها الأيسر , وقالت بوجه مجتمد , وإن ظل به بعض الآثار من الطريقة السابقة :
_ " ليه يا فالح ؟! "
وأنا أفلتت مني ضحكة , فجأة , ندمت عليها بعض الشيء , لأنها أفقدتني مظهر حكيم القرية , ولكني تجاهلت هذا لأني , أشك أن هذا المظهر قد وصل لها أساساً منذ البداية , أكملت , مستجمعاً قواي حتى لا أضحك مرة أخرى وأنا أقول :
_ " علشان إنتي كتبتي العنوان غلط .. هو ملهوش دعوة إنتي عايزة تروحي فين .. مع إنك أساساً عايزة تروحي جوجل .. لكن الكمبيوتر مصمم على أساس إنك لما تكتبي عنوان غلط يوديكي على جوجل .. حتى لو كان العنوان اللي كتبتيه غلط .. هو أساساً عنوان جوجل "
بدا أنها إقتنعت للحظات بما أقول , لأنها عقدت حاجبيها , العلامة الأصلية على التفكير فيما أقول .. ونظرت ناحية الزاوية السفلى من اليسار , علامة المخ , ربما, على التفكير , وأنا ظهرت على ملامحي شيء من طراز : "هااااا ؟ "
أعادت هي نظرها لي وقالت :
_ " همممممم "
فأكملت :
_ " دلوقتي بقا , إنجاز الوصول إلى السيد المبجل (جوجل) بقا , من حقي أنا !! , ولا أقول : (شكراً للبرمجة الحديثة ؟ ) "
_ " شكراً للبرمجة الحديثة " .. هكذا قالت بهدوء , وهي لا توجه نظراتها لي ..
وأنا بحركة مسرحية إنحنيت قائلاً :
_ " نشكركم على حسن إستماعكم "
ولكنها عادت فعقدت حاجبيها , ثانية , وهي علامة سيئة للغاية بعد نهاية النقاش وقالت :
_ " بس الوصول لجوجل دا أساساً مش إنجاز "
وانا نظرت ببلاهة وأنا أفكر أن مشكلة أن تتحدث بالمجاز دوماً , أنك حين تقول شيئاً لا مجاز له , ولا شيء وراءه , ولا يوجد له معنى خفي , خلف كلماتك هذه .. لن يصدقك أحد في الغالب ..
لذا , قلت بعدها , بعد فترة من محاولة إستيعاب الهزيمة , كاسراً حالة الصمت :
_ " تيكي تم تيكي تم "
_ " معنى دا بقا إيه .. سعادتك"
_ " ولا حاجة .. أكيد , وبلا شك المرة دي , تيكي تم تيكي تم ملهاش أي معنى " .


الاثنين، 18 أغسطس 2008

الجري في المكان



لأسباب لا علاقة لها بالقصة التي سأرويها , قررت أن آكل في الخارج اليوم .. قررت هذا بمجرد النظر إلى قعر الحلة التي تحولت فيها" الشِعرية " التي من المفترض أن يتم تحميرها فقط وبما يشبة المعجزة , إلى كتل سوداء كريهة تطلق الدخان ..حسناً .. لم يبق هناك العديد من الخيارات ..خلال ثلث ساعة بالظبط , قياساً لحالة المجاعة التي أعيشها, كنت أدفع الباب الزجاجي الداكن للـ .. لا أعرف .. حسناً .. فلنبدأ من البداية . المكان الذي يقدم طعاماً , هو مطعم , والذي يقدم المشروبات , فهو مقهى في الغالب , أو بار بوجهة نظر , من زاوية أخرى ..
الآن السؤال المهم , ما هو إسم الشيء الذي يقدم النوعين , الأكل والشرب ..
" كافيتيريا " .. يصعد الجواب مباشرة إلى ذهني , ولا يستقر إلا ثلاث ثوان , لأنه يستدعي معه صورة ميرفت أمين غالباً , تجلس مع محمود عبد العزيز في الـ " كافيتيريا " لكي تشرب عصير الليمون , وتتتفق معه على طريقة الهروب من البيت ..
لا ..
هذا المكان لن يكون كافيتريا إلا على جثتي .. في روايات نجيب محفوظ تلعب هذه الأماكن دوراً أساسياً .. في الغرزة تعرف عاشور الناجي على فلة في رواية الحرافيش .. في البار كان عيسى الدباغ يجلس نادباً حظه في رواية السمان والخريف ..
ليكن ما يكن .. انا جائع ..
آتي هنا منذ فترة طويلة نوعاً ما .. وقد بدأت فعلاً في التعرف على تضاريسه , الأماكن التي يجب الجلوس فيها في الوقت الفلاني , متى أطلب إغلاق الستائر , متى أترك المكان لأنه على وشك الإغلاق .
كعادتي , أرتبط بالأشياء ربما بشكل لا يفهمه الكثير .. أقلامي , دفاتري , أوراقي المكرمشة على مكتبي , الطائرات و المراكب الورقية التي أصنعها بكثافة غير عادية .. كل هذه الأشياء من سيحاول أن يلمسها , غالباً , لن يكون رد فعلي تجاهه بالشيء المستحب .. لهذا أًتهم دوماً بالأنانية , وحب التملك . المشكلة أنني لم أدع العكس لحظة .. أنا أناني فعلاً , ومحب للتملك , لكن هذا في الأشياء التي تخصني فقط , ولا أكثر . لن أقترب من أي شيء يملكه شخص آخر , وبالمقابل , لا أريد لأحد أن يقترب من أشيائي .. في الواقع محب للتملك هي الصيغة المهذبة جداً للتعبير عما أنا فيه ..
أخطو عدة خطوات للداخل , ثم يظهر عماد ..عماد هو فتى مهذب للغاية , خريج هندسة , وهو يعمل هنا لأنه عاطل هناك ..
عماد كان لفترة ما , يناديني بحضرتك , وأنا في لحظة ما , لم أعد أحتمل أكثر من هذا .. طلبت منه الجلوس , وشرحت له بهدوء شديد أنني حتى هذه اللحظة لم أتخرج حتى بعد , معنى هذا أنني حامل ثانوية عامة , في حين أنه خريج جامعي .. وفي النهاية قلت له بوضوح :
_ " أرحمني يا أخي "
المشكلة أنني حتى هذه اللحظة لم أعرف مما يجب أن يرحمني . الجميل في الأمر أن عماد توصل لحل وسط , أصبح يناديني بـ " يا باشا " .. وأنا رددت له ذلك , وأصبحت أناديه بـ " يا نجم " .
كما قلت بعدها لأحد أصدقائي , ليس لأني متواضع , ولا لأنني أحب أن أنظر لنفسي بالإعجاب وأقول : "يختي عليا " , كما يفعل البعض , ولكن فعلاً جمل مثل "حضرتك", "سعادتك" , تثير أعصابي .. وكما قلت له بعدها أنني اكره إدعاء التواضع بنفس الدرجة التي أكره فيها الغرور ..
أجيل بصري في المكان وألحظ خلوه تقريباً من أي مظاهر الحياة .. أسأل عماد فيجيب في هدوء أن اليوم هو الخميس .. أرفع حاجبي بدهشة : " والله العظيم " .. وأتساءل عن العلاقة بين الخميس , وخلو المطعم \ الكافتريا \ الغرزة .. طيب , أياً كان .. أختار مكاناً منعزلاً نوعاً ما , يضعني أيضاً في مواجهة التلفاز , هذا هو المكان الوحيد في الكون الذي يجمع بين الإثنين .. تلفاز , وإنعزال .. ربما يكون السبب هو كثرة الأجهزة أصلاً , هناك حوالي 4 أجهزة هنا .. أجلس , وعماد يسألني عن الأخبار .. " ماشي الحال " هكذا أتمتم , وأنا أجلس .. وأسأله عن الأخبار , فيتمتم أنه : " تمام" ..
يسألني هل سأشرب أم آكل .. وتبدأ معنوياتي بالإرتفاع بمجرد الحديث عن الطعام .. أجيبه بإبتسامة واسعة أنني سأفعل الإثنين .. لكن فلنبدأ بالحديث عن الطعام الآن رجاء ..
أفكر قليلاً , ثم يظهر الجواب كإلهام :
_ " بيتزا بالمشروم " ..
يهز رأسه , وهو يكتب .. ثم يرفعه إلي في دهشة حين أكمل في هيام :
_ " ورز بسمتي "
يرفع حاجبيه وهو يسألني :
_ " نعم ؟! "
أنتبه ..
"ايوة فعلاً .. مينفعش .. خلاص , بيتزا بس "
يعيد حاجبيه إلى مكانهما الطبيعي ثم يعقدهما ,وهو يهز رأسه , ويمضي .. وأنا أحاول ألا أبداً سخيفاً ..
في الواقع لي تاريخ مشين في " العك " في الأكل .. في المعتاد أنا مشهور أنني " أستطعم " الأكل .. لا آكل أي شيء , وحينما آكل , آكل بمقدار حتى لا يضيع الطعم , والرائحة عامل مهم جداً بالنسبة لي ..
ولكن كل هذا سيتغير في اللحظة التي أجوع فيها , حينها أتحول للرجل الأخضر .. لا " أستطعم " الأكل .. آكل كل شيء , وحينما آكل لا يهم المقدار , سأتوقف حين أشعر بالشبع .. لا أهتم بالطعم ولا بالهباب الأسود حتى .. الرائحة ؟ .. لا أميزها أساساً ..
أتذكر أحياناً أنني كنت آكل "سندوتش ملوخية " حقيقة لا مجازاً .. كنت فعلاً أفعلها حتى لاحظت أن الجميع يقولونها بسخرية حقيقة , فأكتفيت بفعلها , دون التحدث عنها .. ناهيك طبعاً عن "العيش البلدي بالمايونيز و الفلافل .
لكن هذه كانت لها حالات خاصة بالجوع الشديد , في المعتاد أنا لا آكل إلا مقادير ضئيلة .. وحتى في الفترات التي آكل فيها بشناعة لا يتغير وزني بأي حال .أقطع أفكاري بالنظر في التلفاز .. مؤخراً بدأت علاقتي بهذا الشيء تضعف .. تضعف لدرجة أنني بدأت أشعر بعدم جدواه من الأصل .
رغم الإتساع الرهيب في القنوات , والحديث المتكرر عن أن الأمر أكثر مما نحتمل , وشكوى أصدقائي من تعدد المحطات الذي يجعلهم مشتتين جداً , إلا أنني لم أشعر بهذا أبداً .. نعم , القنوات كثيرة جداً , ولكن كلها تندرج تحت ثلاثة أو أربعة مجموعات , لا أكثر ولا أقل . ستجد وجوهاً جميلة في قنوات الأفلام .. تلك الوجوه التي ستكتشف بعد قليل أنها مصنوعة جداً , وأن هذا يؤذي العين جداً .. ثم ستجد وجوهاً متسهوكة ( من السهوكة ) , ووظيفتها في الحياة أن تقوم بتسبيل عينيها , وتخبر الحبيب , الذي يتخيل المشاهد المتخلف أنه هو , كم هو رائع.. لا أحتاج أن أقول أنها الأغاني بطبيعة الحال .. ثم تجد وجوهاً ممتعضة على الدوام , تشعرك أن الوضع مقرف مقزز مقيت مريض, وهو كذلك في الحقيقة , قنوات الأخبار تقوم بالدور طبعاً على أكمل وجه .. ثم تتفرع القائمة لتشمل الوجوه التي تعض شفتها السفلى طيلة الوقت , طبعاً جبهة ميلودي تونز تتفانى في تقديم وجبة شهية تسعد الروح العليلة .. طبعاً دون الحديث عن جبهة الذقون الطويلة , حتى لا يتم إتهامي بالكفر والإلحاد , وأكل مال النبي لو كانوا في حالة نفسية جيدة ..
مؤخراً قلت أنني أجد قناة " العفاسي " لعباً على وتر الربح , وهو شيء لا يصح .. فتم إتهامي بعد مناقشة دامت عشر دقائق , أنني أشجع الإباحية .. لأن هناك قنوات أخرى تلعب على وترها .. المشكلة أنني أجد الإثنين شيئاً مقززاً .. أن أستغل غريزتين من أقوى الغرائز عند الإنسان بهذا الشكل . سواء كان الأمر إستغلالاً للجنس أو الدين .طبعاً إستغلال الجنس والدين تقوم به قناة الناس بشكل يدعو للتأمل حقاً , بإعتبارها القناة التي ستأخدنا إلى الجنة عن طريق إعلانات المقويات التي ستجعل لك ذقناً تشبه الأخ الشيخ المناضل الفقية الداعية فخر الإسلام وحصن الأمة حسين يعقوب بارك الله فيه ..
حولت نظري عن التلفاز سريعاً , أخرجت كتاباً من حقيبتي , وبدأت في القراءة ..
أيام الإمتحانات هي تحديداً الفترة التي تزداد فيها معدل قراءاتي بشكل مروع .. انتهيت بالأمس فقط من روايتين كل منهما تتجاوز المائتين صفحة , كانت القراءة الثانية لرواية (إبتسامات القديسين) لإبراهيم فرغلي , و (تغريدة البجعة) لمكاوي سعيد .. الجميل أنني ذاكرت أيضاً .. هل هناك ضرورة للقول أنني لا أنام تقريباً ؟!
قطع أفكاري للمرة الثانية صوت عال ٍ بجواري .. أعتدت مؤخراً بطريقة أو بأخرى , أن البشر موجودون معنا في الحياة , رغم كون هذا ليس شيئاً لطيفاً على الدوام .. لهذا السبب لم ألتفت حتى , رغم أن الصوت _قياساً لهدوء المكان_ كان عالياً بعض الشيء .. لكن حين تكرر الأمر أكثر من مرة , رميت أذناً نحو الكلام الذي لم أستبنه في البداية .. ولم أستبنه أيضاً لاحقاً , أنخفض الصوت فجأة , وبدا أن النقاش يسير نحو الحل .. ولكني حين عدت مرة أخرى لقراءة أول كلمة تزامن هذا مع عودة الصوت أعلى من المرة الأولى , لهذا ميزت بوضوح أن : _ " هبة تتدخل براحتها .. هبة تتدخل براحتها " وأنا أفلتت مني ضحكة مفاجئة , فاجئتني انا نفسي في البداية : طبعاً هبة تتدخل براحتها .. هذه من حقائق الكون غير القابلة للنقاش من الأساس ..
هناك حقيقة أخرى تقول أن المشاجرة عندما تصل لقمتها , لابد أن تنخفض حدتها مباشرة , غالباً يكون هذا بقرار باتر من أحد الطرفين بالإنسحاب من حلقة الصراع , وغالباً , من حدة صوتها وهي تصمم على أن تدخل هبة هو حق دستوري , كانت هذه اللحظة هي القمة .. طبعاً لابد من وضع عوامل أخرى في الإعتبار .. المكان , هدوءه , أنها هي من تصرخ , وهذا غير معتاد .. كل هذا يؤكد أن الصوت لن يعلو ثانية .. فليستمتع البشر بالهدوء أخيراً .. وليعد من كانوا يقرأون إلى كتبهم .. لم أكن قد نظرت طيلة كل هذا الوقت حتى ناحيتهم .. وقررت أنني لن أفعل .. أكتفيت بتخمين أن الفتاة قد انصرفت , وأنه الآن يحاول أن يمارس دور شكري سرحان , بالتأكيد لو كنا في بار , لكانت كأس الويسكي (فقط لأن كلمة "ويسكي" نفسها ستبدو رائعة تحت تأثير اللسان المعوج , وهو يطلبها من البار مان_ حكيم الفيلم في الغالب ) في يده الآن , ولأغرق أحزانه في أحضان الراقصة ..
لم يمض الكثير من الوقت حتى سمعت صوته هو يعلو هذه المرة .. عرفت ذلك لأنني كنت قد تخطيت أربع صفحات فقط لا غير فيما أقرأ فيه , حين علا صوته , بدرجه أعلى منها طبعاً , مصمماً على :
_ " كلام عن ماما لأ .. كلام عن ماما لأ "
استغربت في البداية أنها يكرران في كل مرة نفس الجملة مرتين , واعقب إستغرابي تمتمٌ غاضب بلا صوت :
_ " الله يحرقك يا أخي أنت وهي "
وأعجبني جداً أن كلمة "هي" تمشي على الناحيتين .. أمه , و تلك التي تصر على تدخل هبة براحتها , والتي بعد صراخه , أخذت تجر ناعماً , سمعت صوتها الهامس وهي تحاول تهدئته بما لم أسمعه , ولكن تخمينه ليس بالشيء الصعب , وهو لم تدم غضبته أكثر من ثلاث دقائق .. انطلق بعدها في ضحك بصوت عال ٍ ..
_ " كدا كتير بقا "
تمتمت غاضباً _كالعادة_ بلا صوت .. وتلفتْ هذه المرة نحو الصوت وعلى ملامحي مكتوب حرفياً :
_ " أين حشرات الحقل القميئة التي تصدر كل هذه الضوضاء "
ولم يخيبا توقعاتي , كانا حشرتين في موسم التزاوج .. نظرت لطاولتهما بنظرة مقتحمة , رفعتها نحو وجهيهما , وتوقفت عند وجهه هو تحديداً .. ليس لأنه ساحر الجمال لا سمح الله , ولكن لأنه نظر نحوي بنظرة لزجة , بادلته بمثلها .. توقفت نظراتي بشكل فعلاً غبي على وجهه , "نعم أنا أستفزك يا صاحبي " .. وهو كان غبياً كالموت فاستمرت النظرات اللطيفة بيننا فترة , ثم عقد حاجبيه .. وأنا لم أعد أحتمل هذا الكم , فحولت رأسي عنه ..
هناك عشاق يثيرون الإشمئزاز , هذا لو كان من الممكن أصلاً أن نضع كلمة "عشق" مجاورة لكلمة "إشمئزاز".. وصدقاً أظن أنه يمكن ذلك ..
منذ فترة لا بأس بها , بدأت في محاولة تدريب دماغي على التفكير بطريقة لا تضع في إعتبارها المسلمات , المسألة صعبة بشكل لا يطاق .. لأن المسلمات بحد ذاتها قد تكون مهمة جداً , بإعتبارها فكرة في حد ذاتها لا تختلف عن أي فكرة أخرى إلا إنها غير قابلة للنقاش , لهذا قد تساعد في الوصول لشيء معين بسهولة أكبر ..
كنت مهتماً لفترة بروعة أن هناك شيء في الرياضيات يسمى "مسلمات" .. مسلمات إقليدس مثلاً أدهشني في البداية ألا برهان لها .. "هي صحيحة " كما أصر الجميع , وأنا كنت مصراً بغباء لا جدال فيه , أن هذا خطأ .. كيف أقبل شيئاً دون برهان .. كيف أسلم رقبتي لفكرة لا أعرف ما إحتمالات صدقها , أو عدم ذلك ..
وأنا عدت مرة أخرى للإيمان برأيي في رفض المسلمات , لكن هذه المرة بطريقة لا تلغيها تماماً .. تضعها في الإعتبار , تحترمها , لكن لو أمكن الوصول لما أريد بغيرها , فأهلاً وسهلاً ..
لهذا فكلمة "عشاق" , حين أسمعها , لا أسمح لدماغي بالتفكير في الورد , والزهور , والهمسات المتبادلة , وأغاني عبد الحليم , وكل هذا الكلام .. بالأحرى أصبحت أفكر في اللاشيء . ولهذا , يمكنني بكل سهولة أن أصف هاذين بإعتبارهما : " عشاق يثيرون الشفقة " .. بالظبط " يثيرون الشفقة " .. حين يتحول الأمر بقدرة قادر , من غضب مستعر , إلى شفقة لما وصلت إليه من حال ..
كان أصدقائي , في الثانوية العامة , يطلبون مني أن أكتب الشعر حتى يعيدون هم كتابته بخطهم , ثم يرسلونه , وهم يسبلون عيونهم للفتيات اللواتي يعشن في خديعة أن هذا الفتى الذي يخطيء في أبسط قواعد النحو هو منتبي عصره .. في الواقع لم يكن الشعر بهذه الجودة دائماً , وكان غالباً لا يُقرأ من أي طرف : المكتوب إليه , والمدعي أنه صاحبه .. المهم أنه كلام موزون غالباً , ويكتب على شكل الشعر الحديث .. هذا طبعاً يعيد للذهن إحتمال أن يصير هذا الأخ الذي يقف أمامها نزار قباني يوماً ما ..
مرة وقع واحد منهم في شرك مميت .. طلبت منه هي فجأة أن يكتب قصيدة حالاً , وأمامها , لأنها شكتْ أنه من يكتب هذا الكلام .. عندما حاول أن يقول أي شيء, طلبت منه أن يفكر حتى في واحدة , ثم أن يذكر لها فكرة آخر قصيدة كتبها .. والفتى للأسف الشديد لم يكن عنده براعة إستخدام تبريرات مثل : " الإبداع لا وقت له / وحي الشعر مغلق حالياً / وجودك امامي أكبر من أي قصيدة ".. وهو على ما يبدو لم يكن يقرأ أساساً ما أكتبه , ويرسله هو لها , وأعترف لها _الله يخرب بيته _ أن له صديقاً يكتب الشعر , وهو يسطو على قصائده بشكل منتظم .. المثير للإنتباة هنا أنها طلبت رقم هاتفي , وهو قال لها _مرتجفاً في الغالب_ أنني لا أملك هاتفاً خاصاً , يقول لي أنها مباشرة طلبت رقم بيتي , وطلبت منه أن يخبرني أن أنتظر أتصالا في الساعة الفلانية .. حسناً .. هناك عدة أشياء يمكن إستنتاجها , أنها تتمتع أولاً بشخصية قوية بدرجة مخيفة , وأنني أستمعت _ بلا نطق كلمة _ إلى حوالي ثلث ساعة من التهزيق المستمر , ما لا أعرفه هو من أين أتت بكل هذا الكلام ؟! .. والمشكلة أنها لم تستخدم حلولاً سهلة مثل الشتائم , أو الإستهزاء .. هي فقط أستمرت في سرد الأسباب التي من أجلها أنا غبي .. وفي الواقع كانت الأسباب منطقية لدرجة عالية .. لدرجة أنني فقط إكتفيت بالإستماع ..
لا أدري لماذا أرتبط هذا الموقف مع جملة لوجية غالي يقول فيها أنه حين ينتحر سيخبر صديقاً , ويترك ورقة يسجل فيها أنه أنتحر .. لأن الإنتحار هو الفعل الوحيد الحقيقي في حياته , وهو لا يريد أن يتم فهم هذا الفعل بطريقة خاطئة ..
ما العلاقة إذن ؟ بصراحة أنا كففت عن البحث .. هناك شيء عبقري في دماغ الإنسان , أنها أحياناً تعمل بشكل منفصل تماماً عن أي شيء في الكون كله .. وطالما قررت دماغي أن هناك صلة , فهناك صلة . مثلاً جملة : "كعب الغزال يا متحني بدم الغزال " من أغنية لمحمد رشدي بنفس الإسم تقريباً , ترتبط معي بشكل مرضي مع جملة شادية التي توجهها لفريد الأطرش : " حبتني صحيح ؟ " فيقول هو في نبرة نصف مستهزئة : " أومّال .. أومّال " فتقول هي ضاحكة ضحكتها المميزة : " أتاريني بقيت فرحانة " .. ما العلاقة ؟ .. الله أعلم
عندما انتهيت من التفكير في هذا الجزء تحديداً , كان عماد , يضع أمامي البيتزا , و زجاجة مياة معدنية لم أطلبها ( سيتم محاسبتي عليها طبعاً ) , ويقول لي " بالهنا والشفا " ..
** ** ** **
بالأمس قتلت صديقي الصرصار .. الأمر يستحق الإحتفال بجنون , وإراقة النبيذ حتى تسبح شوارع المدينة فيه ..
أخجل أحياناً , من الإعتراف بأنني أعتبر الصراصير والأبراص من الحيوانات الأليفة .. ليس هذا للسبب الرومانسي السخيف الذي يقول بأن كلنا نعيش في عالم واحد , وهي تشعر مثلنا , لكن لسبب رومانسي أسخف , وهو أنني أشمئز من منظر الدم الأبيض _ياللهول_ الذي ينز من الصرصار المهشم , ومن الذيل المقطوع الذي ينفصل ببساطة لا متناهية من البرص .
بالأمس , ظهر صديقي الصرصور فجأة في براد الشاي . كنت أملأ البراد صباحاً , نصف مفتوح العينين , محاولاً إبقاء رأسي في وضع رأسي , عندما إنتهيت من ملأ البراد تماماً بالماء , ظهر صديقي العزيز, على قمة الماء , سابحاً بأقدامه , ومثيراً دوائر في منتهى الصغر حول أقدامه التي تتحرك بعشوائية .. بلا لحظة تردد _أكون حاسماً عندما أستيقظ _ قمت بسكب الماء كله على الأرض , وهو بدا متخبطاً من تغير الوسط المحيط بصورة متتالية , ثم بلا رحمة _أكون قاسياً عندما أستيقظ _ رفعت قدمي عالياً , حتى أصبح فخذي يصنع مع قصبة رجلي زاوية قائمة تماماً , وبقوة متزايدة , نتيجة للعجلة التسارعية التي تتحرك بها قدمي _شكراً لطاقة الوضع_ هويت عليه لدرجة أنني لم أعد أشعر بثقله المادي تحتي .. فكرت أنه سيكون من الرائع لو ثبتّ قدمي في الأرض , وأخذت في تحركيها لليمين واليسار , حتى يتهشم تماماً _ أكون سادياً عندما أستيقظ_ ولكنني تراجعت عندما فكرت أنه غالباً ستكون هذه نهاية علاقتي بما أرتديه في قدمي أياً كان .. رفعت قدمي عن " الشيء " الذي كان حياً , وفكرت أين أضع المقشة والجاروف غالباً . ثم رميت البرّاد ممسكاً إياه من أطراف أصابعي , في صفيحة القمامة . التي كان كيسها البلاستيكي أبيض اللون على غير العادة , تزينه جملة ميزتها من وسط الفراغات المتعددة الصغيرة في السلة ذاتها , " نرجو ألا تكون زيارتكم الأخيرة لسوبر ماركتنا " , تساءلت للحظات عن صحة جملة "ماركتنا" من الناحية اللغوية حتى , ثم قررت العودة إلى النوم .. أكون مجنوناً عندما أستيقظ .
** ** ** ** **
المكان : أولى أول
الزمان : أولى إعدادي .. أول ..
الحدث : حتى أنت يا بروتس ..
دخلت مديرة المدرسة إلى الفصل مسلحة بثقل معنوي فظيع .. كانت أصلاً سيدة بدينة , عظيمة الحجم , فساد الصمت تماماً .
لا.. الامر لم يبدأ بهذا الشكل . فلنوقف المشهد للحظات وندرسه بشكل مفصل ..
هذه المدرسة التي تقف, امام السبورة , تشرح لنا أشياء غريبة عن خبر ( إن ) , مستغربة من دخول المديرة بهذا الشكل , وهو الإستغراب الذي سنعرف أنه ليس حقيقياً إلى هذا الحد .. هي كانت متوقعة أن تأتي المديرة , لكن الإستغراب أو الدهشة جاءا من التوقيت نفسه .. سنعطيها الإسم الكودي : وفاء
حسناً .. هذه المديرة , بالطبع هي لم تتغير , زادت فقط في الحجم , وأكتسبت حيزاً جديداً من الفراغ .. وهو الشيء الذي أثر على " ثقلها " المعنوي كذلك .. هناك أشخاص يكسبهم الوزن رقة كجاهين مثلاً , وهناك آخرون يزيدهم الوزن قرباً من مظهر الـ ( لبودي جارد ) .. غني عن الذكر إذن , إنها فقط تحتاج إلى أربعة كيلو جرامات لكي تتحول إلى ستيفن سيجال ..
هناك طبعاً , أنا , هناك .. في الصف الأوسط , الثالث ناحية اليمين .. طبعاً أنا الوحيد الذي يرتدي نظارة طبية تقريباً (لحقني في نهاية العام حسام الشهير بحسام فقط من غير إسم الأب . كان هو الوحيد الـ(حسام) في الفصل , وكان هذا يثير حسدي دوماً ) .. أحاول التظاهر بالإنتباة , وانا أفكر في ألف شيء آخر ..
هناك أحمد محسن .. وهو يجلس في الصف المجاور للنافذة .. يبتسم , ويكتب , يبتسم , ويكتب , ويكتب , ويكتب , ويكتب , ويكتب ..
أحمد محسن كان "موس" الفصل بلا جدال .. وهو لا يعني أنه كان الأول كل سنة على فصلنا الموقر , ولكنه يعني أنه "مبالغ فيه " من ناحية المذاكرة .. هو كذلك يملك شعراً يتطاير مع الهواء .. وانا طوال عمري كنت أحلم أن يحدث لي هذا .. كان شعري دوماً ثقيلاً بشكل لا يسمح لشيء بتحريكه إلا أصابعي فقط ,
لنقم الآن بتأخير الصورة لمدة سنتين ,
نفس المشهد تقريباً دون أي تغيير , لاحظ أننا كنا الفصل الوحيد الذي لا يتغير فيه أي شيء من أي نوع , نفس الشيء كل سنة , ولكن الوضع هنا ما أسميه بالرتابة الممتعة .. حيث أي تغيير , هو حتماً سيء .
كانت هذه هي وفاء منذ سنتين .. لم يتغير في وجهها الكثير .. لابد من ملاحظة الشامة الصغيرة عند طابع الحسن غير المكتمل , عند منتصف ذقنها بالظبط , وهي الشامة التي سأذكرها في الشعر المصاب بالعتة المنغولي , والذي سأكتبه بغزارة غير عادية في تلك الفترة تحديداً ..
في الواقع هذه الفترة رائعة الجمال , ومثالية بروعة خرافية ..
هل هناك حاجة للقول بأنني كنت هائماً في حب اللغة العربية , ومدرسة اللغة العربية , والهمزة في آخر إسم مدرسة اللغة العربية ؟!
حسناً . فلنقم بتقديم الزمن إلى بداية الحكاية :
قلنا أن المديرة دخلت الفصل .. ونظرت للجميع_بما فينا المدرسة_ نظرة إحتقار لا تأتي إلا بالخبرة والممارسة , ثم قالت شيئاً شبيهاً بـ :" جرى إيه يا حوش يا لمامة ؟ "
وأنا أنكمشت في مكاني ,
يحكون دائماً عن قادة الإنقلابات الذين يهربون في اللحظات الحاسمة , يحكون عنهم بإحتقار غالباً , بإعتبار أنهم يقومون بدور غاية في القذارة .. تحميض النفوس كما يقال , ثم الخلعان .
يقال كذلك أن السادات حينما قامت الثورة , كان في السينما , بملابس مدنية , يشاهد مع جيهان ومن سيصبحون "أولادي يا جيهان" , فيلماً لابد أنه لم يدقق في إختياره ..
رغم أن السادات على ما يقال , لم يكن من القادة المباشرين , إلا أنني لم أستطع حتى هذه اللحظة القول بأن ما فعله صواب , أو خطأ .. كل شيء في الدنيا له أكثر من وجه .. المسألة ليست فقط وجهين للعملة وكفى .. هناك عملة عملاقة لها مئات الأوجة , كل شيء ليس غالباً كما تراه , وليس غالباً كما يراه غيرك , وليس في الأغلب كما يراه من يحبك , وربما يكون كما يراه من تكره , كل شيء , حتى الوجة الذي تراه , ربما له أكثر من وجة , وهو غالباً لا يعيش وحده , بل يتأثر بوجة آخر من مئات الأوجة التي تمارس تأثيرها عليه , من عمله أخرى تماماً ..
بمناسبة الحديث عن الإنقلابات , انا كنت قائد الإنقلاب _ الذي سأنقلب عليه بدوري بعد قليل _ الذي يدور الآن .
الأمور تتغير , هذه قاعدة لا بأس بها لتفسير كل شيء , ربما حتى لتفسر أن والمُدرسة التي كنت أكتب فيها الشعر منذ فترة , إنقلبت علينا , فجأة تحولت إلى كائن آخر .. يعامل الجميع بأسلوب في غاية السوء .. ترفض حتى التعامل معنا .. بدأت الخلافات تظهر , وبدأت الأمور تتطور بشكل غريب من من يفترض بهم أن يكونوا تلاميذا , وأطفالاً فقط ..
هذا خطؤها , هي أرتنا ما يمكن للعلاقة بين طرفي الدراسة أن تكون .. أرتنا أننا يمكن لنا أن نستمتع بما نفعل , بدلاً من إعتبار كل شيء كمصيبة ندعو الله يومياً ان تنتهي ..
اختفت فترة , وجاءوا خلال الفترة _ شهرين تقريباً _ بأخرى سندعوها بـ :( س ) .. يكفيها حرف واحد على أي حال .. هل لم تفدنا في أي شيء .. وتركتنا بلا أي أثر يذكر ..
ثم عادت بعد مرور الشهرين , مدرستنا القديمة التي أصبحت "مختلفة " ,
وأنا , من كنت الفتى المدلل بالنسبة لها , أصبحت لا شيء .. لا يعني هذا أنني أصبحت مضطهداً, بل على العكس ربما , أصبحت طرفاً محايداً .. عاملتني هي كطرف محايد , وبدا هذا بالنسبة لي ألعن مئة مرة من الإضطهاد في التعامل ..
الآن , في هذه اللحظة الغريبة بكل المقاييس , بدأ الجميع يستعد لمشاهدة آثار ما فعلوا ..
مدرستنا (القديمة / الجديدة ) تتوقع دخول المديرة الآن , ولكن التوقع على الأرجح لم يكن بقوة الحدث نفسه , بدت مرتبكه بعض الشيء وهي تنظر لنا ثم للمديرة الشهيرة بـ ( فتكات ), ثم تدير ظهرها لنا وتتظاهر بأنها لا تهتم بكل هذا , بل وتبدأ في كتابة أشياء عن (خبر إن) , وكأنها ترفض تضييع الوقت في مثل هذا الهراء ..
كنا جميعاً , نتظاهر بهدوء القديسين .. وننظر ببراءة شديدة كما يفترض بطلبة يعانون , لكنهم يتحملون ما يحدث , فهم صغار يستنجدون بالمديرة (وهي كانت بالفعل كبيرة جداً في كل شيء) ..
بعد جملة المديرة التي تتحدث عن "الحوش" و "اللمامة" , سألتنا :
_ " إيه اللي حصل يا بهايم .. فاضية لكم أنا ؟ "
كان هذا بمثابة إشارة للجميع ليبدأوا الحديث عما أتفقنا عليه جميعاً .. تم تحديد الخطة , وكتبت أنا بيدي قائمة الأشياء التي تفعلها مدرستنا , والتي نكرهها . ولم يبق إلا التنفيذ فقط
قام الجميع بأدوار ممتازة بالفعل , تجعلني أنا الآن فخوراً بنفسي , أعتبر أنني أديت دوري كقائد لإنقلاب ناجح , يكفي حتى لخلخلة نظام الفصل , وهو المطلوب لا غير ..
كل واحد كان يقوم ليذكر حدثاً معيناً , بالوقائع , والتفاصيل , وبشكل بدأ فعلاً يتحول لحفلة إدانة جماعية ..
أحمد محسن تحديداً , وهو من يفترض به أن يكون "الموس" لا غير .. قام هو نفسه وقال حدثاً معيناً , جعل المديرة تعقد حاجبيها , وهو لم يكن بالمنظر المستحب , حتى بالنسبة لنا , وتهمهم .. مفكرة على ما يبدو في كل هذا الكلام , وكل هذه الإعتراضات المتلاحقة ..
جاء دوري ..
قمت بكل قوة , وقلت أن كل ما يقولونه كذب .. هذه ثاني قاعدة للإنقلاب على الإنقلاب .. الأولى طبعاً أن تكون قائده , الثانية هي أن تقول كل ما تقول بثقة شديدة ..
قلت أنها مدرستنا , وأنها معنا منذ مدة طويلة , وأنها رائعة في التدريس , وأنها لا غبار عليها من ناحية معاملتنا , وأن ما قاله أحمد محسن من أنها تتعامل مع الجميع بطريقة في غاية السوء , غير صحيح مطلقاً , وشككت في نية أحمد نفسه ( القاعدة الثالثة) في سبب ما يقول , وأنه ربما يقول هذا , لأنه لا يقوم بالمطلوب منه على ما يرام ..
ثم ذكرت حادثة عشوائية إستثنائية تثبت وجهه نظري (الرابعة) , قلت أنها عندما تأخر أحدنا في الحضور , قامت هي بإعادة الشرح كاملاً , له هو فقط , وأننا جميعاً إستفدنا ..
كان وقع كلامي رائعاً .. أشرق وجه المديرة , وهو لم يكن بالمنظر المستحب كذلك .. وأصبح وجه مدرستنا , شاحباً , وأنا تذكرت أن القصيدة التي كتبتها فيها , قد ألقيتها في القمامة , وأنني قد نسيت تماماً كل شيء فيها , وأنني لم أعد منبهراً بحرف الهمزة في نهاية إسمها , لأنه في بداية إسمي ..
بعد أن ألقيت قنبلتي الصغيرة .. ساد الصمت بين جميع زملاء الإنقلاب .. كادوا يلتهمونني فعلاً , ولكن سبب عدم فعلهم هذا , يبدو ضبابياً جداً ..
بعد أن أنتهت الحصة .. قام أحمد محسن من مكانه .. عرفت ساعتها أنني خائف .. وعرفت أن للموس قدرة على القطع كذلك . كان يسير نحوي بخطوات واسعة , وقفز من على دكة خشبية ليصل لي , وقال لي مباشرة , وشعره يتطاير في الهواء من المجهود :
_ " شرحت له بعد ما جه متأخر يا حيوان .. وعامل لي فيها كريستوفر كولومبس في الأول " ؟
توقعت أنه سيشتبك معي جسدياً , وأنني غالباً سأضربه , لكنه لم يفعل , للأسف , وأبتعد عني بعدها , وأنا جلست وأنا أشعر أنني حيوان بالفعل , وإن كان هذا لم يغضبني .. القاعدة الخامسة .
** ** ** **
كنت قد انتهيت من طعامي .. ناديت عماد الذي جاء لي وهو يبتسم , ويقول لي مرة أخرى :
_ " بالهنا والشفا "
وأنا أبتسمت , ونظرت لصراصير الحقل , فوجدتهما صامتين تماماً , يأكل كل منهما من طبقه في صمت شديد ..
** ** ** **
هناك شيء غير منطقي في جملة : " مدرسة العربي هتديكم حصة الألعاب " .. لكن غير المنطقي جداً أن تقوم "مدرسة الألعاب" بإعطائنا حصة " الألعاب " وهي تلد مولودها الرابع .. قدرات الإنسان المادية تتوقف عند حدود معينة .
مدرسة العربي التي تدرس لنا حصة الألعاب الآن , هي نفسها مدرسة العربي التي إنقلبت على زملائي من أجلها .. أو من أجل أي شيء في الواقع .. أو من أجل أي شيء إلا الأشياء التي تتعلق بها .
"أجروا في المكان " .. قالت هي في بداية التمارين السويدية التي نمارسها قبل عملية اللعب نفسها ..
الجميع بدأ فعلاً في الجري بهذه الطريقة اللعينة .. لم أكن قد مارست هذا التمرين من قبل , وأستغربت أن الجميع يستمتعون بفعله .. كان معنى هذا أن أحرك رجليّ بطريقة تشابة الركض , لكنني لا أتحرك من مكاني .. فقط أحرك قدمي ..
وأنا وقفت عاجزاً عن البدأ ..
توقفت عندي , وطلبت مني أن أفعل مثلما يفعل الجميع
قلت أنني لا أريد أن أجري ولا أتحرك .. أريد أن أجري
طلبت مني أن "أخرس" وأن أفعل مثلما يفعل الجميع
قلت أنني لن أفعل , وأنني سأركض مثلما يركض الناس الطبيعيون ..
قالت لي مباشرة أنني لن ألعب لو لم أركض ..
كنت قد أعدت علاقاتي مع الجميع , لهذا نظروا لي بإشفاق شديد ..
وأنا قلت , وبدايات دموع تظهر , أنني سأركض , ولن أركض في المكان ..
تحركت بضع خطوات لأنني حركت قدمي راغباً في الحركة .. ومباشرة ,
مدت هي قدمها , أصطدمت بها , ووقعت ,
قالت لي هي أن أقوم , "يا حيوان " , وأن أبدأ الركض في المكان ,
وإلا فلأجلس في " أي داهية" ..
وأنا قمت من مكاني , وبنطالي الأسود مغبر , وبدأت الجري في المكان .

المتابعون