السبت، 5 أكتوبر 2013

لا يدوم اغترابي

نجحت بشكل ما خلال الفترة الماضية في تثبيت عدد معيّن من العادات، وسيلة مقاومة بشكل ما لكل تغيّر مستمر يحدث دون سيطرة مني في كل ناحية، والاستعانة على قضاء الحوائج بالمشي لأطول فترة ممكنة، والسعي لروتين اسبوعي كل جمعة، الوجود في السلطان حسن مثلاً قبل الصلاة، كلام لطيف موصول عن مقدمة ابن خلدون، صلاة الجمعة في الأزهر، المشي بعدها، قدر ما استطعت، في القاهرة القديمة، حتى لو مكانش عندي مزاج أو رغبة في النزول من البيت أساساً، هدّة الحيل طوال النهار، ثم انهاء اليوم سريعاً، والاستعانة بتكرار الأحداث على اليوم الذي يليه.. كلها محاولات لتمرير الأيام، والبحث عن علامات ثابتة.

الشارع الذي وقع عليه الاختيار في رحلة العودة اليومية من العمل، هو تقريباً أقدم الشوارع في المنطقة المحيطة، يقال إن شجر الشارع يعود إلى مئات السنين، من بداية التأسيس نفسها، بعضه تم قطعه لأنه بدأ يضايق بيت مدير الأمن، لكن أغلبه موجود.. طريق المشي اليومي هناك شديد اللطف، ويسمح بإن تسمع أذني صوت خطواتي دون تشويش، وهو الأمر الذي اكتشفت إنه لطيف فعلاً رغم إني كنت أستسخفه في البداية.

النهاردة شفت ولد وبنت ماشيين قدامي في الشارع الفاضي تماماً في عز الصهد، وبدلاً من تجاوز بركة المياة في وسط الشارع، الناتجة عن خرطوم مهمل على جانب جنينة، بدلاً من العبور بجواره ببساطة، الولد وقف قصاد البركة متوسطة الاتساع، ومد إيده للبنت، وهي ترددت للحظات وهي بترفع طرف الجيبة، لكنها في النهاية تركت له يدها، وسندت عليها وهي تأخد خطوة واسعة، كأنها في سبوع.. المعتاد إن رد فعلي بيكون حاد نوعاً ناحية أشياء من هذا القبيل، السخرية سلاح مهم طبعاً، التراب المتراكم على القلب، والقسوة غير المقصودة ناحية أفعال شديدة البساطة والخِفة، لكن أقابلها بدرجة من العنف. الاستخفاف مريح.

واحد من أهم الأسئلة المستمرة معايا من زمان، هو سؤال التمييز بين المعنى وبين الشيء نفسه، شيكسبير عبّر عن كل هذا سابقاً، بجملة تقريرية يؤكد فيها إن الدال والمدلول شيء واحد، وإن الوردة ستظل وردة حتى لو لم نطلق عليها اسماً ما. لكن ماذا لو لم يكن هناك أحد ليشمّ رائحتها، هل ستظل لرائحة الوردة معنى؟ ماذا لو لم يكن على الأرض أي كائن حيّ يملك حاسة للشمّ، ماذا لو كانت الأرض خالية إلا من هذه الوردة، هل ستظلّ لها رائحة؟ فكرة ثبات الشيء بغض النظر عن إسمه، مريحة نسبياً، وتسمح بدرجة من خلو البال، والاطمئنان لسير الأمور، بغض النظر عن موقع البني آدم كمراقب، لكنها في نفس الوقت أصبحت مريبة بالنسبة لي، أحياناً خادعة، واطمئنانها زائف.

مع الوقت تكوّن انطباع عندي، بإن هدف الفلسفة النهائي، هو خلق نسق ما، بغض النظر عن كنهه، المهم إن كل عناصره تكون مرتبطه بالعناصر المجاورة، ويستطيع الواحد مشاهدة الصورة النهائية لهذا التشكيل. يمكن لهذا السبب بالتحديد أحب نيتشه، وزين الدين زيدان، أنا مش من متابعي الكرة بإخلاص، لكن من فترة، كان مجموعة من صحابي بيتكلموا عن لحظات توقف فيها الزمن تماماً بالنسبة لهم.. وكل واحد منهم كان بيحكي حكايات شديدة الشجن والقسوة، أو الجمال والخِفة.. 
اللحظة اللي فكرت فيها تلقائياً، وبشكل غير مفهوم، كانت لحظة طرد زين الدين زيدان من كأس العالم، بعد نطحتة العظيمة لمتايراتزي.. فكرت بالتحديد في إنه لا توجد نهاية لمسيرة مثل مسيرة زيدان، أجمل من نطحة بهذه الدقة والقوة.. لحظة مثالية للخروج عن النص، تحطيم النسق بالكامل، واللعب في مساحة خيالية كأنه بطل خارق لا يهتم بشيء.
عشان كدا بعتبر الحَج البرنس "بلا مرأة بلا خرا" واحد من أبطالي الخارقين.. لأنها لحظة تحطيم نسق كامل بجملة واحدة، كل شيء مُعد حوله، ضيف سبقه، مذيعة وكاميرا وميكروفون، وسؤال عن ترشيح المرأة للبرلمان، وكل شيء يدفع ناحية إنه يتكلم في الموضوع، والبشر غريزياً يميلون لتنفيذ صورة الآخرين عنهم، خصوصاً لحظة تسليط كاميرا عليهم، عشان كدا الناس فجأة بتقرر تتكلم بطريقة غريبة جداً أول ما تعرف إن التلفزيون يصوّر، تكلّف كامل في اللغة والحركة، لكن البرنس يتجاهل هذا كله، "أنا عايز أتكلم في الأتوبيس أهم".. وفجأة ! تأسست سردية جديدة، بهذه البساطة ! تفاصيل ممتدة عن الحر والشمس، والناس في الشارع مش عارفين يركبوا الأتوبيس، بدلاً من دخول جدال ممتد حول الترشح من عدمه، وهل هو قرار خاطيء أم مناسب، هو لأنه برنس قرر الخروج تماماً عن النسق الجاهز له. يمكن يكون ترشيح المرأة للبرلمان مهم، ويمكن ميكونش، الجدل نفسه هنا مش مهم. والبؤس هنا يكون بؤس محاولة التعبير عن شيء آخر، ربما لم يتم الوصول له بعد، لكن من المعلوم بالضرورة أنه موجود.. أيهما أكثر ابهاراً على كل حال؟ هزيمة بطل العالم في الشطرنج مثلاً، أم ضربه بالقلم قبل الهزيمة، وقلب الطاولة كلها؟ نطحة عنيفة في الصدر بعد شتيمة..

أقرب أنبياء الله لي، هو النبي موسى، وعلى عكس كثير من أولو العزم من الرسل، معاناته كانت مرتبطة بشيء غير واضح، شيء في تكوينه هو الشخصي، ليس مرضاً كأيوب مثلاً، أو محنة سجن كيوسف، موسى يحمل مأساته بالكامل في نفسه، عبّر عنه القرآن بجملة: "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني".. وهي اسوأ لحظات البني آدم، تكوين فكرة ما، وعدم القدرة الكاملة على الصياغة والتعبير في شكل.. مهما كان الشكل. لهذا السبب "قال رب اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، وأحلل عقدة من لساني"..

المقارنة قائمة وبشكل مستمر بالنسبة لي، في قصيدة مشهورة جداً لـ"ييتس"، شاعر أميركي عظيم، يقف وحبيبته أمام بركة ماء، لكنه بدلاً من أن يستغل الفرصة كشخص حكيم، لإمساك يدها للحظات مختلسة، يعترف لها بعدم قدرته على وضع معطفه على الأرض أمامها، لأنه فقير، ويضع بدلاً من هذا المعطف أحلامه.. يطلب منها أن تطأ على أحلامه برفق. 
نفس الفكرة تقريباً، وبدرجة وضوح أكبر حتى، في الجملة الشعبية العظيمة: "حبيبي ماشي حافي/ والأرض بتلسعه/ يا ريتني كنت شبشب/ كنت أقدر أنفعه".. المعنى واحد تماماً هنا، لكن الوردة مختلفة. أميل للثانية بالمناسبة، بحكم الاستخفاف وتراب الأيام وخلافه، ولأن الطين حقيقي. 

يا رب، أيها القادر على كل شيء، كيف ينصلح حال القلب بأشياء كهذه..

الأحد، 21 يوليو 2013

عزيزي نيتشه.. كل عام وأنت بخير.

 أردت فقط أن أعلمك بأنني، وبصدقٍ كامل، حاولت محاربة الوحوش، دون أن أتحول إلى مجرد وحش آخر.. وأتبعت إرشاداتك العامة، بعدم التحديق إلى الهاوية، والإكثار من الصلاة على النبي، و لكنني فشلت على ما يبدو في مهمّتي الوجودية. والآن، يصيبني الغم كلما نظرت إلى وجهي في المرآة، ورأيت الحراشيف التي أصبحت تخفيه، وكلما نظفت عيني الواحدة في منتصف رأسي بعناية، الصداع الآن أقل بعض الشيء مما كان، لكنه مُركّز. عزيزي نيتشه.. يبدو أنني سأتوقف عن الحرب، وأجلس بجوار أمي لأسمع منها مشاكل الحياة اليومية، وأختلس لحظات في البلكونة، أقطف الملوخية معها وهي رائقة المزاج، محاذراً ألا أخيف الأطفال في العمارة المقابلة..

 يورز سنسيرلي..

السبت، 20 أبريل 2013

بانت رشا


كنت متأكد والله

رشا رزق، أغاني الكارتون، رفيقة المراهقة، والساعات المختلسة أمام التلفزيون قبل النوم، أو ساعة الغداء، أو عندما تنتهي من واجب المدرسة مبكّراً، وطبعاً: الأجازة بالكامل، وكذلك حب عارم من طرف واحد، لفتاة لم أرها إلا الآن..

أتذكر دائماً بيت شعر لأدونيس، وهو شاعر سخيف بالنسبة لي إلا أن بيت الشعر هذا، بالتحديد، شديد الجمال للأسف، وبشكل استثنائي، يقول فيه أن :

لفتاتها تَخزُ
وجفونها وَتَرٌ وأغنيةٌ
صيفيّةٌ ، وقميصُها كرَزُ .

عموماً من السيء أن يحب المرء بيت شعر لشاعر يكرهه، هذا السوء يماثل في حدّته، بهاء اكتشاف صباح وجه فتاة كنت تحب صوتها فقط، متقبّلاً مصير حب كهذا ببصيرة لا تهتم بأي شيء زيادة..

بوجه تظهر فيه نغزة بسيطة قرب زاوية فمها اليمنى، وطابع حسن في منتصف الذقن، ولمن ينتمي طابع الحسن إن لم يكن لرشا؟
من هذه الزاوية، أول شيء يتم تمييزه بعد ذلك هو لمعة العين تلك، ضحكة بسيطة تجعل الصورة كاملة، ساعة الساعد الأيسر، وخاتم يحتل مكانه في أصبع طويل ممتد كخطّ مستقيم..

الذراع اليمنى ترتفع للأعلى، واليسرى للأمام، بعض خلق الله لا يحتاج وجودهم إلى زوايا، حيث كل حركة لهم، تمثّل قوساً يُكمل ما يليه..

يمكن كذلك ملاحظة حركة الأصابع، الحركة التي لم تتوقف، طبعاً، في اللحظة التي توقّف الزمن فيها لحظة التقاط الصورة، من حضر رشا يومها، لابد أنه رآها وهي تطرقع بأصبيعها في كلتا اليدين، مستجيبة لإيقاع لحن ما.. ما حصلنا عليه كان مجرد تلميح فاتن..

رشا، إسم الظبي

بصوت كهذا، كان بإمكانها أن تغزو العالم، لكنها بدلاً من ذلك، قررت أن تغنّي لمجموعة من الأطفال لا يتجاوزون الخامسة عشر، مفضّلة أن يكون عرشها من الألعاب والحلوى، يعلوه طلاءٌ برّاق من ورق تجليد دفاتر المدرسة..



الخميس، 7 مارس 2013

سايبر


(1)

في آخر أيام سبتمبر 2012، كتبت دينا الهوّاري في مدوّنتها..
الفارق الزمني بين تدوينتها تلك وبين التي تسبقها يبلغ حوالي السنتين، عرفت هذا بالصدفة، ربما في ديسمبر، أيام امتحانات الكلية النهائية التي يحتاج المرء فيها إلى تضييع وقته بشدّة بعيداً عن كتب الدراسة. في غالب الأمر كنت اتصفح الفيس بوك بكسل، حين خطرت ببالي فكرة العودة لقراءة بضعة مدوّنات مفضلة لي، كنت أضعها في مجموعة واحدة على الهامش الجانبي لمدونتي التي لم أعد أكتب فيها تقريباً، قررت أن هذا سيضمن لي قراءة هادئة تلك الليلة. هناك متعة خاصة بالتحديد في اعادة القراءة، تختلف تماماً عن فكرة الاستمتاع بقراءة نص يتعرّف عليه المرء لأول مرة. أن يقرأ المرء ما سبق أن قرأه، واعتبره هو بنفسه جميلاً، هو أمر يشبه مقابلة مدرسّ الثانوي المفضل صدفة في الشارع. لا حاجة للكلام الكثير، فقط سؤال سريع عن 
الأحوال.
كنت متعباً، وخائفاً من الامتحان المقترب بسرعة، وخائفاً من كونها آخر سنة في الجامعة، وأنه يفترض بي العمل بعد عدة شهور، ولم أكن قادراً على قراءة شيء جديد، بدا خيار اعادة القراءة ممتازاً. كنت أريد أن اقرأ وأنا أعرف كيف ستسير الأمور، بدلاً من نص غريب عني.

تدوينة دينا الهوّاري الجديدة حرمتني من استعادة الذكريات، بدت مدونتها بهذا الشكل نشازاً وسط المدونات الأخرى التي زرتها قبل ذلك، والتي تم تحديث أغلبها آخر مرة منذ سنتين على الأقل.. قرأت التدوينة. ثم ابتسمت.. البشر لا يتغيّرون تقريباً.

(2)

اكتشفت عالم المدوّنات الموازي في مرحلة مبكرة نسبياً، اول سنين الكلّية، 2006، أول مرّة اعاين فيها التعليم الجامعي المصري بكل تجلّياته ذات الرائحة الكريهة. لم أكن أمتلك وصلة انترنت في ذلك الوقت، لهذا كان السايبر هو الوسيلة الوحيدة للدخول على الشبكة.. انهي يومي في الجامعة_وقتها كنت مواظباً على الحضور كطالب مجتهد لم يكتشف الخدعة بعد_ حوالي الساعة الرابعة، ثم اخرج غاضباً، ومنهكاً إلى الشارع.. امشي من الجامعة إلى السايبر متسائلاً عمّا أفعله بالضبط..

من يسأل ماذا كنّا نفعل قبل الفيس بوك بالتأكيد لم يمرّ بمرحلة المدوّنات العظيمة. لا أعرف كيف يمكن للمرء أن يعيش حياة طبيعية، دون أن يعرف (أبو الليل).. شخص يكتب تحت هذا الإسم المستعار مدوّنة إسمها (يا خي أحه).. كنت أدخل المدوّنة وأنا خائف من أن يراها صاحب السايبر. في هذا الوقت، كان الرجل قد بدأ في التحول لسلفي صميم، وبالتالي يعتبر نفسه مسئولاً عن المحتوى الذي يتعامل معه الزبائن، بإعتباره صاحب المكان، وهو الذي يقوم بتوفير الخدمة لنا مقابل مبلغ من المال. كان يشرح هذا بصوت عالٍ في كل مرّة يضبط فيها شيئاً لا يعجبه على أحد الشاشات، سواء كانت مادة إباحية أم لا، مكرراً لنا أنه ليس على استعداد لدخول جهنّم بسبب مجموعة من العيال الذين اكتشفوا شارباً أخضر اللون في وجوههم فظنّوا أنفسهم رجالاً، كان من الطبيعي كل فترة أن تسمع الصراخ والشجار في المكان ثم الجملة الأشهر في تاريخ هذا السايبر، والتي تتكرر كل مرّة: "والله أنا لقيت دي ظهرت لي، مش أنا اللي فتحت الصفحة"، ثم شجار آخر لطرد المتلبّس من المكان، وشجار ثالث من أجل استرداد المال، لأنه كان يجبر الجميع على دفع الساعة مقدّماً، ونقوم بتجديدها دورياً. 

مدوّنة أبو الليل كانت شيئاً لا يمكن وصفه، كم غير طبيعي من السخرية واللماحة والذكاء، سخرية من حسني مبارك، ومن ممتاز القط، ومن مقاله عن طشّة الملوخية التي يشكو فيه من كون حسني مبارك محروماً من أكل الملوخية لأن أعباء الرئاسة ثقيلة، ومن لوحات فاروق حسني التي يبدو أن بها علامات لا يراها إلا المتبصّرون، و قصائد النثر التي لا يفهمها أحد، ومن نفسه حين يكتب هو الآخر نصوصاً لا يفهمها أحد،  كل هذا مع قدر كبير من بذاءة اللسان شديدة الذكاء، كنت أضحك بهستريا وأنا اقرأ لأبو الليل، وبشكل مكتوم محاولاً عدم لفت نظر صاحب المحل..

بقيت كلمة (أبو الليل) نوعاً من نادٍ سرّي، أعضاء لا يعرفون بعضهم إلا من خلال هذه الكلمة، في السنة الثانية من الكلية، قلت كلمة "أبو الليل" وسط مجموعة كبيرة من الناس، فضحكت واحدة من أكثر الشخصيات خجلاً التي عرفتها في حياتي، ثم كتمتْ الضحكة مباشرة حين نظرتُ لها بإندهاش. صمدتْ هذه الصداقة بالذات رغم تفكك غيرها على مدار سنوات الجامعة الطويلة.

(3) 

قليلون من عاصروا المدوّنات، أقل منهم من عرفوا المنتديات.. أيام الاعدادية الهادئة، والسفر الأول حين يقرر رب الأسرة أن يتحرك إلى دولة من دول النفط.
 منتدى روايات، واكتشاف أن بالإمكان التعرّف على أشخاص يقرأون نفس ما تقرؤه أنت. كان المنتدى مجموعة من الناس التي قررت ان تجتمع في مكان واحد، لأن لهم اهتمامات مشتركة تتعلّق بالقراءة بشكل عام، وبقراءة سلاسل روايات مصرية للجيب بشكل خاص، نبيل فاروق وأدهم صبري في بداية الأمر كما هو المعتاد، ثم الابتعاد عن هذا العالم الساذج إلى عالم أكثر تعقيداً بشكل نسبي، أحمد خالد توفيق، ورفعت اسماعيل.


بدا المنتدى في هذه الأوقات بمثابة المكان الوحيد الذي يمكن للمرء فيه أن يتحدث في أشياء تهمه فعلاً، عن الكتب، عن الروايات، عمّا يفعله أبطال الراويات هذه، عن الحبكات.. عن مواعيد صدور الروايات القادمة.


هل تعرف الأطفال الذين لا يفعلون شيئاً غير القراءة؟ والذين ينحصر برنامجهم أيام العطلة، ونهاية الأسبوع في نشاط وحيد هو المزيد والمزيد من القراءة؟ العنصر الأهم في حياة هؤلاء هو الوحدة في غالب الأمر، وسط عالم المراهقين المهتمين بكرة القدم بالتحديد، أو بصيحات الموضة و(الآي-شادو) يبدو الاهتمام بشيء كالكتب انتحاراً، واعلاناً عن عدم صلاحيتك له.. عالم شديد القسوة، يرى في النظّارة أصلاً ما يستحق السخرية، ويسحق كل بادرة ضعف .. ما فعله هذا المنتدى هو أنه وفّر مكاناً لاجتماع كل هؤلاء، وليصبح بإمكانهم الكلام عن هذه الاشياء التي يفعلونها، وأن يكتشفوا_بذهول حقيقي_ أن هناك من يفعل ما يفعلونه تماماً.. يخبيء الروايات في كتب الدراسة، ويسترق الساعات من أجل مغامرة جديدة لأدهم صبري، أو حذلقة مضحكة للعجوز رفعت إسماعيل.

(4)

ثم أن الفيس بوك جاء ليفتن الناس عمّا كانوا فيه..
من قال أن الانترنت يتّسع مع الوقت؟ الواقع أنه يضيق بسرعة شديدة، وكل واحد يصبح بإمكانه أن يراقب الآخر بسهولة شديدة..
الفيس بوك يتحول إلى وحش هائل يلتهم كلّ شيء، ويجعل نفسه في المركز. السفينة الأم، كل شيء مهما كان، له اتصال بالمركز.. لو قرأت مقالاً في مجلّة درجة ثالثة على الانترنت، واعجبك، يمكنك بسهولة أن تقوم بترشيحه لأصدقاءك على الفيس بوك.. ترجوك المجلّة في الواقع أن تفعل.. أن تدخله إلى وحدة المعالجة المركزية عبر ثغرتك هذه.

(5)

كنت قد بدأت في اكتشاف المدوّنات السياسية، في نفس الوقت الذي استعان فيه صاحب السايبر بفتاة لمساعدته في العمل، بدا هذا غريباً من كافة الأوجه، كلامه عن المراهقين الفرحين بشواربهم الخضراء، والنار والبنزين، كان متعارضاً تماماً مع وجود الفتاة، التي عرفنا فيما بعد أنها في بداية عامها الأول في الكلية، مثلي تماماً. بدت لطيفة، بملامح شديدة الهدوء، وجيبة شديدة الضيق لا تتغيّر. مسئوليتها الأساسية كانت اطفاء الاجهزة غير الشاغرة من أجل التوفير في الكهرباء، التي كان صاحب المحل مهووساً بها، واضيفت مهام البوفية إلى عاتقها دون اعتراض كبير منها بعد بداية عملها بفترة بسيطة. ومنذ اللحظة الأولى اثبتت أنها ليست فريسة سهلة، تشاجرت في يومها الأول مع فتى كان يريد رقم هاتفها، وآخر رفض دفع ثمن الساعة مقدماً، وتحرّك للجلوس على جهاز لا يجلس عليه أحد، وهي_أمام عيني المذهولتين_ أمسكت بالكرسي ودلقت الفتى على الأرض.. تم استيعاب المشكلة سريعاً، والفتى التهم كرامته سريعاً مقابل عدد ساعات مجّاني ترضية من صاحب المكان، لكن الحدود بقيت واضحة منذ اللحظة الأولى.


التعديلات الدستورية قد تم تمريرها، ومبارك يستعدّ لفترة حكم جديدة، بدأت في القراءة بشكل أوسع، غير مهتم بالسياسة بشكل خاص، وغير مهتم بالمدوّنات السياسية تلك تقريباً، محاولاً البحث فقط عن حكايات وسطها. أثناء هذا تعرّفت على مدوّنة عمرو عزت، بدا عمرو منخرطاً بشدّة فيما يفعله، واثقاً تماماً مما يستطيع فعله، عرفت أنه ترك الهندسة، وبدأ في دراسة الفلسفة، يكتب عن كل شيء، السياسة وغيرها، وحتى السياسة التي كان يكتبها كانت شخصية تماماً، كان هذا خطاباً مختلفاً اتعامل معه للمرة الأولى، السياسة بإعتبارها مساحة للعب، ليست مكاناً للديباجات القومية المملة، ولا للشعارات السياسية البلهاء بشكل عام، فقط مساحة لفعل كل ما نستطيع فعله، محاولين رفع السقف بإستمرار، لا لشيء إلا لكي نتسلّى أكثر.. اختلاف هذا الخطاب يكمن بالتحديد في كونه لا يقول "من أجل غد أفضل" كما يقول المنخرطون في السياسة، السياسيون تماماً، لكنه يقول أن "علينا ان نوفّر مساحة أكبر للعب، وأن نقاتل من يمنعنا عن ذلك". وكان هذا مناسباً لي تماماً، حتى الآن، أنا غير مهتم بالسياسة أصلاً، فقط أريد مكاناً آمنا، ومناسباً للعب.
بهذا يصبح النزول في مظاهرة بها عشر أفراد أمراً لطيفاً، العشر أفراد لن يجيئوا بغد أفضل، لكنهم سيربكون المستنقع الراكد هذا، وينعمون بساعات من اللعب في الشارع.

(6)

على عكس مدوّنات ذائعة الصيت مثل مدونة (حواديت) لرحاب بسّام، كنت شديد التعلّق بمدونة دينا الهوّاري، ما كانت تكتبه رحاب كان على درجة كبيرة من اللماحة والذكاء بالفعل، لكن مدونة دينا الهواري كانت تملك شيئاً مختلفاً، درجة الشجن هذه التي يمكن التقاطها في تدويناتها، كلامها عن أصدقائها، ونصوصها التي لا يوجد فيها تغيّرات درامية كبيرة ملفتة للنظر، على العكس تماماً، كانت تكتب بلا بداية ولا نهاية تقريباً، وتكتب عن كل شيء بنفس الطريقة، وبشكل عادي، كل هذا كان يقول الكثير عن روح طيّبة يصدر عنها كل هذا. انسانة معيّنة لها عالم ربما لا يكون ملوّناً ولا مثيراً للإهتمام من النظرة الأولى، لكنه هاديء تماماً، ولطيف، كل هذه كانت أشياءاً تجعلني في انتظار ما تكتبه دائماً. 

عندما قرأت آخر نص وضعته في المدوّنه، تذكّرت مباشرة تدوينة أخرى كتبتها هي منذ فترة طويلة، عدت لأرشيف المدوّنة ووجدت أنا تتحدث عن نفس الشيء، بفارق أربع سنوات: "أنها تشعر أنها قد كبرت"! كانت تعتبر نفسها كبرت منذ أربع سنوات..
هي الآن أم، لها طفل عنده 3 سنوات، وهو مازال يكبر، لم اعرفها يوماً بشكل شخصي، لكني كنت سعيداً بشكل غير مفهوم لأنها بخير، ولأنها تتقدم في حياتها بهذا الشكل..

(7)

تحوّل السايبر إلى محل عطور، إسمه (حامل المسك) مقتبس من حديث نبوي شريف كتب نصّه بالكامل على لوحة كرتون أمام المحل. غلق المحل تدور حوله الكثير من الأساطير التي لا أعرف مدى صحتها تماماً، لكن هناك كلام عن أن الرجل ضبط الفتاة في المطبخ مع فتى في ثالثة ثانوي، أصيب بلوثة وهو يرى أشنع كوابيسه تتحقق أمام عينيه، وحطّم بنفسه كل الأجهزة التي كان يرى أنها السبب في فتح عيون المراهقين ذوي الشوارب الخضراء على المسخرة.
صاحب المحل(الذي طالت ذقنه بشكل ملحوظ) كلما رآني أعبر أمامه في الطريق، لابد أن يوقفني، يسلّم علي، ويخبرني أنني كنت ولداً محترماً، وعمري ما فتحت حاجات عيب، وها أنا ذا في كلّية محترمة.. رأيته في يوم 28 يناير بعد الصلاة ونحن نتحرّك في أول مظاهرة أخرج فيها في حياتي، وقال لي أنني يجب علي العودة لأن هناك بهدلة ستحدث الآن، وأنني في كلية محترمة، قلت له : "ميتين أم الكليّة المحترمة، ارحم أهلي"
آخر مرّة رأيته فيها، قلت له أنني لم أكن مؤدبّاً تماماً يعني، كنت افتح مدوّنة إسمها (يا أخي أحه)، ابتسم بوّد وقال لي: "بس إنت كنت محترم، غيرك كان بيفتح سكس، الكلام المكتوب مش زي الفيلم برضة، يمكن عشان كدا بقيت بتنزل مظاهرات"

(8)

العب لعبة غريبة هذه الأيام، أتحدّث عن أبو الليل الذي لا أعرفه، اسأل محدّثي: " سمعت عن أبو الليل؟" وغالباً ما يسألني إن كنت أقصد فيلم كتكوت.. لكنني أحدّثه عن المدوّنات، وعن الفرصة العظيمة التي اتيحت لنا لقراءة شيء شديد الجمال والخفّة بعيداً عن أعين النصوص المترهلة المتناثرة، التي كانت تحاصرنا في كل مكان. بداية من الصحف، نهاية بنشرات الأخبار..
عرفت بعدها أن أبو الليل أصيب بالعمى، وتوقف عن الكتابة. لا أعرف عنه حالياً أي شيء ، لعله بخير، عليه السلام..





المتابعون