السبت، 4 يوليو 2009

!فكيف كان يمكن ؟


كان من المفترض ، أن تتم الكتابة عن عبد الوهاب المسيري (وهو أكبر من أي لقب) بالأمس .. أي ثالث أيام شهر يوليو ، وهو شهر أكن له شعوراً عميقاً بالمقت لتركز كل المصائب الكبرى فيه على الأغلب ..
كان من المفترض ، ولكنه لم يحدث .. وذلك بعيداً عن حقيقة أنه كان ليلة آخر إمتحان شفوي في هذه السنة العظيمة ، وإن كان هذا سبباً كافياً جداً .. لكن الحقيقة أنني لم أستطع كتابة أي شيء إلا الهراء المجسد ..
كلام لا أول له من آخر عن عظمة الرجل وروعة الرجل وتأثير الرجل ، وهي كلها أشياء لا تحتاج مني أن آتي لأثبتها لعموم البشر الذين كانوا يظنون العكس .. برحمة من الله ارسلني إليهم لأقول لهم معلومة مهمة جداً وهي أن : "المسيري كويس على فكرة" ..
تزامن هذا من حالة غريبة من الوسواس .. الحقيقة أنني طوال نهاري أمس أمس الأول لم أستطيع طرد لحن أغنية Black or White المميز من ذهني .. وهي أول أغنية سمعتها للأخ مايكل جاكسون ( تماشياً مع الهوجة السخيفة ) .. لا أذكر عمري وقتها في الحقيقة ، لكن على أي حال ، لابد كنت عنيداً للغاية حتى أقف أمام السلطة العائلية مقرراً أنني أحب هذا الرجل ، وهي تهمة بالمعنى الحرفي في أسرة تعتبر مثل هذا التصريح بداية لإعلاني المتوقع عن إنحرافي الأخلاقي المرعب.. وهذا مجرد مثال في الحقيقة على تأثير مايكل جاكسون في عصر لم تكن القرية الصغيرة ، صغيرة إلى هذا الحد .. و بصراحة ، يمكنني الآن أن أتفهم ما الذي كان يخيفهم إلى هذه الدرجة .. مايكل كان دوماً عصياً على الإدراك والفهم .. يعود بك بكل بساطة للتفكير بغريزتك لا أكثر .. الرقص ، الرموز الجنسية التي تمتليء بها أغانيه وكليباته .. طريقه الغناء نفسها ـ أصبعه الأوسط الشهير ، وإمساكه لأماكن حساسه من جسده بكل بساطة ، كل هذا يبدو فعلاً كمصيبة تأثيرها سيقع على الطفل الصغير الذي كنته ..
كان لقائي الأول بالمسيري سعيداً .. بدأت كما هي العادة بكتبه الصغيرة الممتعة الصادرة عن دار المعارف .. سلسلة (إقرأ) تقريباً : (اليهود في عقل هؤلاء ) و أدهشني بغزارة أفكاره وقدرته على تحويل كتاب يفترض أنه مجرد تجميع وسرد لحيوات (هؤلاء) إلى عمل ممتع جداً .. ثم بدأت العجلة في الدوران وأنتهت عند كتابه الجامع (رحلتي الفكرية / سيرة غير ذاتية غير موضوعية) ..
أذكر حتى هذه اللحظة ذهولي حين بدأت فيه ، وشعوري الذي لا يتكرر كثيراً بالإنجاز حين انتهيت منه في اسبوع ونصف ، ورغم انني عموماً قد أقرأ كتاباً بهذا الحجم في خمسة أيام إن لم يكن أقل ، إلا أن الكتاب أجبرني إجباراً على التمسك بكل كلمة وكل تعبير ..
في وسط العجلة هذه أعتقد أن عمله المذهل (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) بجزأيه الأول والثاني ، هو عمل لم يتكرر في الثقافة العربية ..
كلما تذكرت المسيري ، تداعت إلى ذهني الفقرة الأخيرة من كتاب (رحلتي الفكرية .. ) :
"كان هناك فنان، يعيش في مدينة كوورو، دائب المحاولة للوصول إلى الكمال.وذات مرة تراءى له أن يصنع عصا. وقد توصل هذا الفنان إلى أن الزمان عنصر مكون للعمل الفني الذي لم يصل بعد إلى الكمال، أما العمل الكامل فلا يدخله الزمان أبداً. فقال لنفسه : سيكون عملي كاملاً من جميع النواحي، حتى لو استلزم الأمر ألا أفعل شيئاً آخر في حياتي.فذهب في التو إلى غابة، باحثاً عن قطعة من الخشب، لأن عمله الفني لا يمكن أن يصنع من مادة غير ملائمة. وبينما كان يبحث عن قطعة الخشب، ويستبعد العصاة تلو الأخرى، بدأ أصدقاؤه تدريجياً في التخلي عنه، إذ نال منهم الهرم وقضوا.أما هو، فل يتقدم به العمر لحظة واحدة، فوفاؤه لغايته وإصراره وتقواه السامية أضفت عليه، دون أن علمه، شباباً أزلياً.ولأنه لم يهادن الزمن، ابتعد الزمن عن طريقه، ولم يسعه إلا أن يطلق الزفرات عن بعد، لأنه لم يمكنه التغلب عليه.وقبل أن يجد الفنان العصا المناسبة من جميع النواحي، أضحت مدينة كوورو أطلالاً عتيقة فجلس هو على أحد أكوامها لينزع لحاء العصا، وقبل أن يعطيها الشك لالمناسب، كانت أسرة كاندهار الحاكمة قد بلغت نهايتها، فكتب اسم آخر أعضائها على الرمل بطرف العصا، ثم استأنف عمله بعد ذلك.ومع انتهائه من تنعيم العصا وصقلها لم يعد النجم كالباً في الدب القطبي. وقبل أن يضع الحلقة المعدنية (في طرف العصا لوقايتها) وقبل أن يزين رأسها بالأحجار الثمينة، كانت آلاف السنين قد مرت. وكان براهما قد استيقظ وخلد إلى النوم عدة مرات.وحينما وضع الفنان اللمسة الأخيرة على العصا، اعترته الدهشة حين تمددت العصا بغتة امام ناظريه لتصبح أجمل المخلوقات طراً، لقد صنع نسقاً جديداً بصنعه هذه العصا، عالماً نسبه كاملة وجميلة، وقد زالت في أثناء صنعه مدن وأسر قديمة، ولكن حلت محلها مدن وأسر أكثر جلالاً.وقد رأى الفنان الآن وقد تكومت عند قدميه أكوام النجارة التي سقطت لتوها، رأى أن مرور الوقت في السابق بالنسبة له ولعمله كان مجرد وهم، وأن لم يمر من الوقت إلا القليل.كانت مادة عمله نقية صافية، وكان فنه نقياً صافياً، فكيف كان يمكن للنتيجة ألا تكون رائعة؟"
أعتقد أن شعوري بالحزن على مايكل جاكسون هو نوع من الدهشة أكثر من أي شيء آخر .. أنه يموت مثل الآخرين ! .. وهو لم يكن أبداً ، ولو ليوم واحد من هؤلاء الآخرين .. تمرد على حياته ، وعاش كما يحب هو وبالشكل الذي يرضيه ، وهذا نموذج مذهل فعلاً لقوة غريبة ..
يحكي عبد الوهاب المسيري في مقطع غريب من كتبه أنه اشتري قميصاً من نوع معين ، الأغلب أنه من شركة لها أسم تجاري شهير ، وأكتشف وجود قطع ما في هذا القميص .. يقول هو أنه قرر أن يستمر بإرتداءه كما يفترض بعمره الإفتراضي ، مع توضيحه المتكرر أنه يلبس هذا القميض رغم القطع الواضح فيه ، فقط لتسجيل موقف ضد الشركات والإستغلال .
والأمر لا يقتصر على هذا .. يشرح كذلك أنه قام بتصميم قميص معين ، يتماشي مع البيئة المصرية التي يعيش فيها ، فيقرر أنه سيكون بلا ياقة ، وسهل الغسل ، وبلا أكمام طويلة .. ربما يبدو الأمر بسيطاً للغاية لكن الحقيقة أن أسلوب الحياة الذي يرفض القولبة والتمرد على وضع الإنسان لنفسه في مجرد قائمة طويلة ، في رأيي ، هو بداية أي عمل له معنى من أي نوع .
يقول مايكل جاكسون في معرض حديثه عن ألبوم (Thriller) والذي حقق أعلى معدل مبيعات في التاريخ ، أنه فقط قرر أنه سيكون الأفضل .


">

المتابعون