الأحد، 31 مارس 2019

من صنع الأيدي: المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام


(1)

تبدأ «أسماء سيد» الفصل الرابع والأخير من كتابها (المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام) باقتباس لمحمد بن علي الشوكاني، العالم والمُجدد اليمني المتوفي عام 1250 ه، يقول فيه: "لم يُنقل عن أحد من العلماء أنه رد خبر المرأة لكونها امرأة".
بهذا الاقتباس الختامي، تصل أسماء سيّد إلى الفكرة الأساسية التي قامت عليها الفصول الأربعة. وهي الإجابة عن سؤالين أساسيين، طُرحا بطرق مختلفة: كيف كان وضع المرأة بالضبط فيما يتعلق بالعلوم الدينية في العصور الإسلامية الأولى؟ ولماذا تراجع دورهن بشدة في العصور الحديثة؟

حاولت أسماء سيد الإجابة عن السؤال الأول بطريقة تداخل فيها العديد من الجوانب، سواء التاريخية أو الإجتماعية، في الوقت الذي كان فيه السؤال الثاني في خلفية المشهد دائماً على مدار الكتاب كله، كهاجس ربما لا كفكرة واضحة.

تسود في كثير من الأدبيات المعنية بالدراسات الإسلامية، نظرة تقول بأن المرأة كانت ممنوعة-بالذات في العصور الأولى- من الوصول إلى مصادر المعرفة، أن هذا المنع كان قرارًا واضحًا، مُتخذًا بعناية، ومُطبقًا بعناية مماثلة، وأن مراكمة رأس المال المعرفي كان حِكراً على الرجال فقط. وهي نظرة لها ما يبررها حينما يمتد الفحص إلى السرديات التقليدية في العصر الحديث، وأنماط التديّن الذي يضع المرأة أولاً في درجة أدنى أمام النص الديني، وثانيًا، يطلب منها الإنصياع المباشر لهذه القرارات، وإلا فإنها ترتكب مُحرماً. التعامل مع هذه النظرة كان دائماً محل توظيف لأهداف، في الغالب، سياسية، وفي كل الأحوال غير محايدة.

ما تحاول «أسماء سيد» أن تفعله، هو أن تستخرج من هذه المساحات المتداخلة، سردية جديدة تحاول فيها استكشاف ما إذا كان للمرأة إسهام في عملية نقل الحديث على مر السنين الأولى في الإسلام أم أن الأمر كان حكراً على الرجال. 

ليس هذا كتاباً تاريخياً بالمعنى المفهوم، وإن كان موضوعه تاريخياً، إلا أن المبحث الأساسي فيه، هو محاولة التأصيل لإزدهار مساهمة المرأة المسلمة في رواية الحديث، تحديداً في العصور الأولى من الإسلام، ثم اختفاء هذه الظاهرة في العصور الإسلامية الوسطى، قبل أن تعاود الظهور بعد ذلك. ومحاولة الوقوف على أسباب الإزدهار والاختفاء، والتعامل معها لا كظواهر ذاتية، تبدأ وتنتهي بمعزل عن غيرها، بل وضعها في سياقها الإجتماعي والديني في هذه العصور. 

تنطلق أسماء من هذه الفكرة الأساسية لتستكشف إسهام المرأة في العلوم الدينية، وفترات الإنقطاع والإتصال، وذلك عبر دراسة تعامل المرأة مع الحديث المرويّ عن النبي، واعتباره البنية السردية الأساسية.


(2)

ظهر «الحديث» باصطلاحه ولفظه، في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، مَثّل النبي، بشخصه، المصدر الأهم للمعرفة الدينية في الإسلام. فهو لا ينطق عن الهوى، واتصاله بالله لا ينقطع، وبالتالي اعتبر المسلمون منذ اللحظات الأولى كلام النبي وأوامره وأفعاله، وكذلك ما يقرّه وما ينهى عنه، جزءاً أساسياً من أي تشريع، تحديداً في المقام الثاني بعد القرآن، الذي هو كتاب الله، المحفوظ فيه كلامه.

نتيجة لمحورية الدور الذي لعبه الحديث النبوي في التشريع، كان التعامل معه دائماً مسألة مليئة بالتحيّزات على مدار تاريخه وتطوّره. حتى لو استبعدنا، بطريقة ما، مركزيته الديني، ففي الوقت الذي رآه بعض الباحثين سجلاً دقيقاً لتاريخ الإسلام وتشكّل نظامه السياسي، فإن البعض على ناحية أخرى، رأوه تلفيقات لا أساس لها. 

تبتعد المؤلفة من البداية عن هذه الإشكالية. فتحيل دراستها إلى ما تسميه بالـ«ذاكرة الجمعية» الإسلامية عن دور النساء كراويات للحديث. 
فهي هنا، كما تقول، لا تُناقش مسألة الفصل في صحة الأحاديث المنسوبة إلى النبي من عدمها، لكنها تكتفي بالحد الأدنى المقبول الحصول عليه من هذه المرويات، وهو استكشاف ما نُسب إلى النساء من روايات، وما جرى تداوله بالفعل عنهن، وبالتالي الخروج بلمحات عن حياتهن والبيئة التي مارسن حياتهم فيها. 

الأطروحة الأساسية في هذا الكتاب هي التعامل مع الأحاديث من حيث أهميتها عند جميع الأطراف. فبشكل عام، لم تخرج الأحاديث المروية عن التصورات العامة التي كوّنها اللاحقون من المسلمين عن سابقيهم.

تطرح المؤلفة في مقدمتها ثلاث أسئلة أساسية، تحاول الإجابة عنها عبر طريقها في الكتاب كله: هل كان التعامل مع الراويات من النساء على أساس أنهن عالمات، أم مجرد صاحبات للأحاديث الشفوية التي نقلنها بحكم صحبة النبي والتزامن معه في نفس المرحلة الزمنية؟

هل هنالك تشابه بين دور الصحابيات في هذه الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي، وبين المُحدّثات من النساء في العصر السلجوقي والمملوكي والأيوبي؟

والسؤال الأهم: كيف استطاعت النساء المسلمات الحصول على الحق في التعليم، بل والرواية والتدريس في بعض الأحيان، وهو ما كان من نتائجه بالبديهة التواصل بالكلام والنظر مع شيوخهن الذين تعلمن على أيديهم، ومع طلابهن الذين تلقوا العلم عنهن؟ 

(3)

استخدمت أسماء سيد، أدوات تنتمي بالأساس إلى عالم علم الاجتماع التربوي، وتحديداً تلك الدراسات التي اهتمت باستخدامات المعرفة الإجتماعية. 

المعرفة هنا ليست شيئاً منفصلاً عن التفاعل المجتمعي، بل هي جزء أصيل من القدرة على التعليم والمشاركة. 
كان «بيير بورديو» pierre bordieu  هو من أشار إلى ضرورة التفكير في رأس المال، لا على اعتبار أنه مجرد موارد مادية متراكمة، وإنما على أنه «أصول» يمكن لها أن تظهر في شكل سلع ثقافية، ومن ثم، تؤدي إلى حراك اجتماعي.

تقطع المؤلفة منذ اللحظة الأولى، بوجود تمايز واضح في أدوار المحدثات من النساء في العصور الإسلامية الأولى (الصحابيات) عن المُحدثات اللواتي ظهرن في عصور لاحقة. والفارق هو بالضرورة مسألة معاينة النبي عن قرب. 

كانت المُحدثات الأوائل راويات حديث بحكم التزامن. كن شاهدات عيان، رأين النبي وسمعن منه، ثم أخبرن عن ذلك، بل أن بعضهن كان يوضح رأيه في المسائل الفقهية والتعبدية والعقائدية بناء على هذه المعايشة، لكن من الضروري ملاحظة أن رواياتهن كانت تفتقر، مثلها في ذلك مثل روايات الرجال، إلى هيكل تنظيمي واضح، وهو الذي سيُعرف في عصور لاحقة بالسند والمتن.

وعلى النقيض، تمتعت المحدثات في العصور التالية بمكانتهن بناءً على كونهن راويات للحديث ومُعلّمات لطالبي العلم، هذه الأحاديث التي جرى جمعها وتنقيحها في خلال هذه الفترة.
هذا التباين، الذي قد يبدو بديهيًا، هو عنصر لازم لفهم طبيعة الأدوار الإجتماعية، وبالتالي لا بديل عنه، لو أردنا تأمل الحالتين. 


(4)
يؤكد تحليل «أسماء سيد» على أنه لا يمكن استيعاب النقاط المحورية الأساسية في التاريخ الإسلامي، دون إجراء تحقيق في ديناميات علاقات الجنوسة Gender dynamics، بهدف فهم آليات القوة والتأثير التي تعاملت معها المرأة وتأثرت بها، ولكنها في الوقت نفسه، تؤكد حرصها على التعامل مع القضايا التاريخية بمعزل عن مقاييس الواقع الذي تكتب فيه وتحيزاته.

ففي الوقت الذي تُسلّم فيه بأن هنالك تبعات متباينة لدراستها، فيما يتعلق بالخطاب النسوي المعاصر، وفيما يتعلق بقضايا متباينة مثل تمكين المرأة والوصاية عليها، فإنها تحذو حذو مؤرخين مثل «جون سكوت» و«كارولين بينوم»، في الهاجس الذي عبر عنه كلا منهما، عن أن الأفكار التي تحملها المخاوف النسوية معرضة دائماً لخطر تحليل التاريخ بأثر رجعي. 

المؤلفة هنا تحاول، مرة أخرى، الخروج من دائرة جدل لا يتعلق بموضوع بحثها الأساسي (كما فعلت بالضبط فيما يتعلق بصحة الأحاديث النبوية)، وهي بالتالي تحذر من قراءة الكتاب قراءة معادية للمرأة، أو مُمكنة لها. فهذا الموضوع لا يشغلها بذاته كمجال للبحث.
هذا التمييز الذكي، هو بالضبط، ما يجعل من قراءة الكتاب تجربة فريدة. فبعيداً عن محاكمة التاريخ بأثر رجعي طبقاً للواقع، أو الإنسحاق الكامل أمامه. يمثّل موضوع البحث ومنهجيته، مساحة للتأمل والتفكير؟ 


(5)

يستعرض الفصل الأول من الكتاب المعنون بـ«الصحابيات واستحداث الرواية» المراحل التي مرت بها عملية رواية الحديث عن النبي، بالتركيز على الصحابيات في العصور الإسلامية الأولى، وبالتحديد، زوجاته، أمهات المؤمنين، واللواتي كن، بحكم القرابة والصلة والتعامل اليومي، الأكثر اتصالاً وقدرة على الرواية، بالمقارنة بغيرهن، ممن اقتصرت العلاقة بينهن وبين النبي على سؤاله عن أمر من أمور الدين أو الدنيا، ورواية الإجابة بعدها، في سياقات مختلفة. 

تحظى السيدة عائشة بنت أبي بكر، والسيدة أم سلمة بالنصييب الأكبر من هذه المرويات. وتلمّح المؤلفة إلى أن السيدة عائشة والسيدة أم سلمة اختارتا نوعاً مختلفاً من التفاعل مع الوسط المحيط بهما من بعد وفاة النبي، ففي الوقت الذي التزمت فيه أغلب زوجات الرسول بدرجة من الالتزام بالـ«حجاب» المفروض عليهن بحكم نص قرآني (وصل الأمر إلى رفض السيدة سَودة بنت زمعة الذهاب لأداء فريضة الحج بالرغم من إذن الخليفة عثمان لها)، كانت كل من عائشة  وأم سلمة على درجة من الاشتباك المباشر، لدرجة التدخل بالتوجيه والتعديل في كثير من الأحيان، وأن لرأيهما وزن شرعي معتبر، لكن الفارق الأساسي بين أم سلمة وعائشة، يظهر في هذه النقطة بالتحديد. فعائشة كانت تتخذ زمام المبادرة في كثير من الأحيان، متحدثة عمّا رأته مباشرة من رسول الله، بل ومدليه برأيها في كثير من القضايا. مدفوعة في الغالب بشعور استحقاق نابع من القرب الطويل من النبي، والحظوة عنده.

أما أم سلمة، فقد كانت أشبه بباقي زوجات الرسول، من حيث ابتعادها عن الحياة اليومية للمجتمع، وإن كانت دائماً ترحب باستشارات كبار الصحابة لها. 
وهو ما يقول أن طريقة تفسير عائشة لآيات الـ«حجاب» كانت تنحو منحى مختلفاً عن باقي زوجات النبي.

يتغيّر الحال تماماً في الفصلين التاليين، الثالث والرابع، وفيهما يظهر تراجع حاد لوجود المحدّثات على الساحة العامة، تزامن هذا مع ظهور أُسس عامة لعلم الحديث، ممثلة في الإسناد والمتن. ونشأة مجموعة معيّنة من القواعد التي تستلزم حركة اجتماعية من نوع معيّن، لم تكن متوافرة في هذا الوقت للنساء. 

تربط المؤلفة بين تراجع مشاركة النساء في رواية الحديث إلى ثلاثة أسباب رئيسية، أولهم كان ظهور الأسس العامة كما سلف، والثاني كان تصاعد الجدل بين أهل الحديث في استخدامه كمصدر للتشريع والعقيدة، والثالث وهو الأوقع، كان ظهور الـ«الترحال» طلباً للحديث واستوثاقاً منه، كدعامة أساسية لاعتماد المُحدث.

في الفصلين الثالث والرابع تحديداً من هذا الكتاب، اهتمت «أسماء سيد» بتوضيح أن حركة انتعاش المُحدثات في التاريخ الإسلامي، لم تكن حركة تهدف إلى تدمير ما أسمته «القواعد الأبوية» في المجتمع، ولم يكن لها أثر مباشر في «تثوير» نشاط المرأة المجتمعي. بل كان الهدف بالأساس هو محاولة الحفاظ على تراث النبي، والذي بدأ المسلمون باستشعار خطورته بمرور السنين التي تفصلهم عن وفاة النبي. بإختصار، وكما تقول المؤلفة بشكل واضح: "كان نطاق عمل المرأة المسلمة في الحقبة الكلاسيكية مُقيداً بمعايير مجتمعاتها، التي وجهت إمكاناتها الفكرية نحو رواية الحديث بدلاً من الاشتغال بالفقه أو الكلام. ومن خلال تبني هذه القواعد ودعمها، وليس العمل على تخريبها، فإن المرأة المسلمة قد حققت مكانتها، وفي جميع الأحوال إنجازها الشخصي".


(6)

الكتاب في مجمله محاولة جديدة، في مساحة عادة ما يختلط فيها السياسي بالتاريخي بالإجتماعي، ويغطي فيها التحيّز على البحث الجاد. حاولت «أسماء سيد»، خلال رحلتها التي شملت الفترة الطويلة من بداية النقل عن الرسول، وحتى نهايات الإمبراطورية العثمانية، استعراض مساحات ظلت لوقت طويل بعيدة عن أي دراسة جادة، والتي أزعم أنها الطريقة الأساسية لفهم الواقع وتخطيه بل وتجاوز مشكلاته وأسئلته، التي نكتشف، بسبب كتب كهذه نعاني من ندرتها، أنها ليست إشكاليات جديدة، وأن النقاشات الكُبرى التي نخوضها في يومنا هذا، أو التي تبدو مخيفة بالنسبة لقطاعات من المسلمين، في مجرّد تخيّلها، بداية من الأسئلة البديهية حول حركة المرأة في الفضاء العام، وحتى دخولها إلى المسجد كمُعلّمة ومدرسة، وجلوس الرجال أمامها في موقع التلميذ لا الأستاذ، هي نقاشات مكررة في جوهرها، تحتاج ربما إلى التمعّن في القرون الأولى، بنفس القدر الذي نتطلع فيه إلى الأمام، وأن الأمور لم تكن ما هي عليه الآن منذ الأزل. بل هي من صنع يدينا.

(نُشر في مجلة مرايا - العدد الرابع)

المتابعون