السبت، 5 أكتوبر 2013

لا يدوم اغترابي

نجحت بشكل ما خلال الفترة الماضية في تثبيت عدد معيّن من العادات، وسيلة مقاومة بشكل ما لكل تغيّر مستمر يحدث دون سيطرة مني في كل ناحية، والاستعانة على قضاء الحوائج بالمشي لأطول فترة ممكنة، والسعي لروتين اسبوعي كل جمعة، الوجود في السلطان حسن مثلاً قبل الصلاة، كلام لطيف موصول عن مقدمة ابن خلدون، صلاة الجمعة في الأزهر، المشي بعدها، قدر ما استطعت، في القاهرة القديمة، حتى لو مكانش عندي مزاج أو رغبة في النزول من البيت أساساً، هدّة الحيل طوال النهار، ثم انهاء اليوم سريعاً، والاستعانة بتكرار الأحداث على اليوم الذي يليه.. كلها محاولات لتمرير الأيام، والبحث عن علامات ثابتة.

الشارع الذي وقع عليه الاختيار في رحلة العودة اليومية من العمل، هو تقريباً أقدم الشوارع في المنطقة المحيطة، يقال إن شجر الشارع يعود إلى مئات السنين، من بداية التأسيس نفسها، بعضه تم قطعه لأنه بدأ يضايق بيت مدير الأمن، لكن أغلبه موجود.. طريق المشي اليومي هناك شديد اللطف، ويسمح بإن تسمع أذني صوت خطواتي دون تشويش، وهو الأمر الذي اكتشفت إنه لطيف فعلاً رغم إني كنت أستسخفه في البداية.

النهاردة شفت ولد وبنت ماشيين قدامي في الشارع الفاضي تماماً في عز الصهد، وبدلاً من تجاوز بركة المياة في وسط الشارع، الناتجة عن خرطوم مهمل على جانب جنينة، بدلاً من العبور بجواره ببساطة، الولد وقف قصاد البركة متوسطة الاتساع، ومد إيده للبنت، وهي ترددت للحظات وهي بترفع طرف الجيبة، لكنها في النهاية تركت له يدها، وسندت عليها وهي تأخد خطوة واسعة، كأنها في سبوع.. المعتاد إن رد فعلي بيكون حاد نوعاً ناحية أشياء من هذا القبيل، السخرية سلاح مهم طبعاً، التراب المتراكم على القلب، والقسوة غير المقصودة ناحية أفعال شديدة البساطة والخِفة، لكن أقابلها بدرجة من العنف. الاستخفاف مريح.

واحد من أهم الأسئلة المستمرة معايا من زمان، هو سؤال التمييز بين المعنى وبين الشيء نفسه، شيكسبير عبّر عن كل هذا سابقاً، بجملة تقريرية يؤكد فيها إن الدال والمدلول شيء واحد، وإن الوردة ستظل وردة حتى لو لم نطلق عليها اسماً ما. لكن ماذا لو لم يكن هناك أحد ليشمّ رائحتها، هل ستظل لرائحة الوردة معنى؟ ماذا لو لم يكن على الأرض أي كائن حيّ يملك حاسة للشمّ، ماذا لو كانت الأرض خالية إلا من هذه الوردة، هل ستظلّ لها رائحة؟ فكرة ثبات الشيء بغض النظر عن إسمه، مريحة نسبياً، وتسمح بدرجة من خلو البال، والاطمئنان لسير الأمور، بغض النظر عن موقع البني آدم كمراقب، لكنها في نفس الوقت أصبحت مريبة بالنسبة لي، أحياناً خادعة، واطمئنانها زائف.

مع الوقت تكوّن انطباع عندي، بإن هدف الفلسفة النهائي، هو خلق نسق ما، بغض النظر عن كنهه، المهم إن كل عناصره تكون مرتبطه بالعناصر المجاورة، ويستطيع الواحد مشاهدة الصورة النهائية لهذا التشكيل. يمكن لهذا السبب بالتحديد أحب نيتشه، وزين الدين زيدان، أنا مش من متابعي الكرة بإخلاص، لكن من فترة، كان مجموعة من صحابي بيتكلموا عن لحظات توقف فيها الزمن تماماً بالنسبة لهم.. وكل واحد منهم كان بيحكي حكايات شديدة الشجن والقسوة، أو الجمال والخِفة.. 
اللحظة اللي فكرت فيها تلقائياً، وبشكل غير مفهوم، كانت لحظة طرد زين الدين زيدان من كأس العالم، بعد نطحتة العظيمة لمتايراتزي.. فكرت بالتحديد في إنه لا توجد نهاية لمسيرة مثل مسيرة زيدان، أجمل من نطحة بهذه الدقة والقوة.. لحظة مثالية للخروج عن النص، تحطيم النسق بالكامل، واللعب في مساحة خيالية كأنه بطل خارق لا يهتم بشيء.
عشان كدا بعتبر الحَج البرنس "بلا مرأة بلا خرا" واحد من أبطالي الخارقين.. لأنها لحظة تحطيم نسق كامل بجملة واحدة، كل شيء مُعد حوله، ضيف سبقه، مذيعة وكاميرا وميكروفون، وسؤال عن ترشيح المرأة للبرلمان، وكل شيء يدفع ناحية إنه يتكلم في الموضوع، والبشر غريزياً يميلون لتنفيذ صورة الآخرين عنهم، خصوصاً لحظة تسليط كاميرا عليهم، عشان كدا الناس فجأة بتقرر تتكلم بطريقة غريبة جداً أول ما تعرف إن التلفزيون يصوّر، تكلّف كامل في اللغة والحركة، لكن البرنس يتجاهل هذا كله، "أنا عايز أتكلم في الأتوبيس أهم".. وفجأة ! تأسست سردية جديدة، بهذه البساطة ! تفاصيل ممتدة عن الحر والشمس، والناس في الشارع مش عارفين يركبوا الأتوبيس، بدلاً من دخول جدال ممتد حول الترشح من عدمه، وهل هو قرار خاطيء أم مناسب، هو لأنه برنس قرر الخروج تماماً عن النسق الجاهز له. يمكن يكون ترشيح المرأة للبرلمان مهم، ويمكن ميكونش، الجدل نفسه هنا مش مهم. والبؤس هنا يكون بؤس محاولة التعبير عن شيء آخر، ربما لم يتم الوصول له بعد، لكن من المعلوم بالضرورة أنه موجود.. أيهما أكثر ابهاراً على كل حال؟ هزيمة بطل العالم في الشطرنج مثلاً، أم ضربه بالقلم قبل الهزيمة، وقلب الطاولة كلها؟ نطحة عنيفة في الصدر بعد شتيمة..

أقرب أنبياء الله لي، هو النبي موسى، وعلى عكس كثير من أولو العزم من الرسل، معاناته كانت مرتبطة بشيء غير واضح، شيء في تكوينه هو الشخصي، ليس مرضاً كأيوب مثلاً، أو محنة سجن كيوسف، موسى يحمل مأساته بالكامل في نفسه، عبّر عنه القرآن بجملة: "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني".. وهي اسوأ لحظات البني آدم، تكوين فكرة ما، وعدم القدرة الكاملة على الصياغة والتعبير في شكل.. مهما كان الشكل. لهذا السبب "قال رب اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، وأحلل عقدة من لساني"..

المقارنة قائمة وبشكل مستمر بالنسبة لي، في قصيدة مشهورة جداً لـ"ييتس"، شاعر أميركي عظيم، يقف وحبيبته أمام بركة ماء، لكنه بدلاً من أن يستغل الفرصة كشخص حكيم، لإمساك يدها للحظات مختلسة، يعترف لها بعدم قدرته على وضع معطفه على الأرض أمامها، لأنه فقير، ويضع بدلاً من هذا المعطف أحلامه.. يطلب منها أن تطأ على أحلامه برفق. 
نفس الفكرة تقريباً، وبدرجة وضوح أكبر حتى، في الجملة الشعبية العظيمة: "حبيبي ماشي حافي/ والأرض بتلسعه/ يا ريتني كنت شبشب/ كنت أقدر أنفعه".. المعنى واحد تماماً هنا، لكن الوردة مختلفة. أميل للثانية بالمناسبة، بحكم الاستخفاف وتراب الأيام وخلافه، ولأن الطين حقيقي. 

يا رب، أيها القادر على كل شيء، كيف ينصلح حال القلب بأشياء كهذه..

هناك 8 تعليقات:

abdallah mortada يقول...

فشيخة يا أبو جمال ساعتها ودلوقتى

روز يقول...

أنا باجي مدونتك باستمرار. مبسوطة طبعًا إن فيه تدوينة جديدة، لكنها محمّلة بالأسى. تراب الأيام، القلب المثقل، الحقايق اللي اكتشفناها فجأة وقبل أوانها، أو مكانش من اللازم إننا نكتشفهاأساسًا..
tread softly
because you are treading on my dreams..
جملة بترن في وداني بقالها عشرميت سنة..
كل ده كتير يا أحمد، وأنا، كعادتي في الفترة الأخيرة، مبعرفش أواجه "الكتير" ده..
عامة، كلنا ماشيين وإحنا ملصمين قلوبنا، وخايفين لنقع، وخايفين للتانيين يشوفونا وإحنا متلصمين، نقوم نصعب عليهم أو ببساطة يديروا ظهرهم لينا ويمشوا، هازّين كتافهم، معتبرين إننا ما دمنا عشنا للحظة دي يبقى إحنا قادرين على الحياة لفترة تانية بعدها، بدونهم، بدون مساعدتهم..
واحدة صاحبتي، من النوبة وعمرها ما راحتها، كانت دايمًا كل ما اكلمها في حاجة وأنا معتبرة إن أقصى ما تستطيع فعله هو الإنصات لي، كانت بتقول لي: طب ح نعمل ايه في ده؟ وأنا أقع في حيرة شديدة، لأنها ببساطة عايزة تنقلني من خانة المفعول به للفاعل، وأنا بكون مستسلمة تمامًا. دايمًا باخذلها، وهي إنسانة عظيمة، عمرها ما فقدت الإيمان بيا..
...
خليك كويس يا أحمد، إنت تعني لي الكثير والله :)

غير معرف يقول...

انا عارف يا ابو جمال انك قاصدها ما بعد حداثيه وان الوضع الفشيخ ده مالوش غير ما بعد الحداثه بس الناس هابله وهتصدق وبكره تلاقى اللى يحط فى فيسبوك اقتباس شكسبير المضروب ده بمنتهى الثقه ولا يروح ينشر بين معارفه ان يتس امريكانى ولا يفتكر حادثه الشاعر الفقير دى حصلت بجد
حط لهم ملحوظه ولا حاجه يا ابو جمال دى الناس غلبانه والحياه قاسيه علينا كلنا ومش طالبه نشوش على ناس ملعوب فى دماغها من بيتهم

نهى جمال يقول...

هو سؤال منطقي .. بتقليل الغضب اتجاهها أعتقد :D رغم إنه وارد مايكنش فيه أي غضب في الكلام بس رغم ذلك حسيته كده

ومع ذلك جميل : )

Purlo يقول...

أبوس إيدك أكتب أكتر من كده .. أنا قربت أعمل مولد كل ما ألاقيلك تدوينه جديدة :D
و بالمناسبة ، أقدر ألاقيك على الفيسبوك ؟

كلام وخلاص يقول...

من فترة قريت حوار مع هاروكى موراكامي بيقول أن في فترة كتابته لاى رواية بيحافظ على روتين يومي يقوم بيه، بيبدأ من الساعة 4 الفجر بالمشي المتواصل لساعة وبعدها السباحة، بيتهيألى أن الروتين بيدنا مساحة أمان أو نسق مفهوم قصاد عبث أو شيءبنكرهه، بيرتب الدماغ
ألطف شيء في المقال هو القدرة على التنقل بين الخفة والثقل، بالمعنى اللى كونديرا كان بيحلله في روايته،الإنتقال ده مش طريقة كتابة "كول" أو برنسه زى الحج ما عمل كمان هو طريقة شبه الحياة ويمكن نكتشف في يوم انها شبه الحقيقة

mirage يقول...

الوردة ستظل وردة حتى لو لم نطلق عليها اسماً ما. الفكرة دي مريحة نسبياً، وتسمح بدرجة من خلو البال، والاطمئنان لسير الأمور، بغض النظر عن موقع البني آدم كمراقب، لكنها في نفس الوقت أصبحت مريبة بالنسبة لي، أحياناً خادعة، واطمئنانها زائف.

Ahmed Negmeldin يقول...

أنا جيت هنا بالصدفة وانبسطت، كنت بدور على معنى كلمات أغنية لا يدوم اغترابي، علشان مش حاسس فيها غير بالغربة ومش فاهم إزاي بتنقطع رغم إنها لسا في غربة

المتابعون