الثلاثاء، 17 أبريل 2012

يوميات الباطنة - متولي



عندما قام متولي من مكانه على الكرسي البلاستيك البنّي، وذهب إلى اللاب توب ليغير الأغنية، لم أعلق. حتى عندما اختار الأطلال، وسألني إن كنت أريد الاستماع إليها، رفعت رأسي عن الكتاب، وهززتها سريعاً، كنت أود أن أقول له، أن بامكانه اختيار أي أغنية يريد طالما سيصمت ويتوقف عن الحديث عنها، ويذاكر..

هنالك حكمة من اختيار أم كلثوم يا متولي، أعرف أنك تعرفها طالما لم تبتعد عن أم كلثوم في اختياراتك طوال الليلة، يستعينون على المسافات الطويلة بأم كلثوم عموماً، هي تناسب الرحلات بين المحافظات التي تستهلك أكثر من ساعة، الانتظار الطويل الممل الممتد، ومذاكرة الباطنة مثلاً. أثناء ولادتي يا متولي_لم أحك لك هذه الحكاية قبلاً_ استعان أبي بأم كلثوم، لم يستطع مقاومة القلق على الولادة المتعسرة لأبنه الأول، تلك التي كادت تودي بأمي، فترك المستشفى بما فيها، وذهب إلى السيارة الفيورا الصغيرة التي كان يملكها آنذاك، واستمع لشرائط أم كلثوم بالكامل في كاسيت العربة البائس..

لا بأس يا متولي، فلنستمع إلى الأطلال، أينعم أنت منعت عنّا عدّة أغاني مشرقة، وأنا شخصياً كنت في انتظار انت عمري، لكنك قاطعت رقّ الحبيب، لتسمع نحيب قلبك صادراً من حنجرتها، لكن لا بأس طالما ستتوقف عن الكلام عنها..

كنت أذاكر الملاريا، وأفكر أنّها حالة حزينة، فكّرت أن أقول هذه الملاحظة التي اعتقدت أنها ذكية، لكنني حين نظرت لوجهك الأصفر، قلت أنني سأنتظر حالة أخرى سعيدة أخبرك بها، هي نفس الفكرة يعني في النهاية، الفرق فقط في الشعور الذي ينتقل من الحالة.. يمكنني أن أخبرك الآن على كل حال أن الملاريا حالة حزينة يا متولي. يا الله.. حمّى تهدأ، لتبدأ من جديد في سلسلة ملعونة لا تنتهي، يشعر المريض بالبرد، ودرجة حرارته تتجاوز الأربعين، ثم يشعر بنار الله الموقدة بعد ساعتين، حيث يجب تصريف الحرارة هذه بشكل ما، وبعدها يا متولي، ينام متعباً، لتبدأ السلسلة هذه من جديد، وأما العلاج فيؤدي إلى هلاوس نفسية! قلّي هل هناك ما هو مثير للحزن أكثر من هذا؟

نعم.. هناك ما هو مثير للحزن أكثر ، ابتسم بشفقةٍ الآن، أعرف أن هناك ما هو أكثر..

منذ نصف ساعة بالظبط، وبينما تغني أم كلثوم شيئاً ما لا أذكره عن الأمل، نظر متولي للسقف طويلاً، وقال بحسرة: "المفروض مكونش هنا على فكرة".
المفروض ألا يكون أحد منّا هنا يا متولي في الحقيقة، المؤكد أننا كان يمكن أن نكون في كل مكان إلا هنا، نذاكر الباطنة يا متولي، كان يمكن أن أكون على شاطيء البحر، أبلل قدمّي بالماء المالح بينما تمشي فتاة جميلة بجواري، أو أمشي فقط دون أن يكون بجواري أحد، أو أتظاهر بالسباحة، بينما أكتفي بتحريك الماء من حولي، كان يمكن أن أمشي في مظاهرة أهتف فيها بسقوط واحد من أولاد الحرام الذين يتكاثرون ذاتياً، أو حتى أنام، أنام فقط.. أو اشاهد فيلم شجرة الحياة الذي أريد مشاهدته منذ سنة ونصف، هل هذا صعب؟ قل لي بصراحة يعني، هل هذا صعب؟
لكن المعضلة وجودية بالأساس، أنت هنا تفعل شيئاً ما، لأنك لست موجوداً في مكان مختلف تفعل شيئاً آخر. أنت تذاكر الباطنة وتترك الفتاة التي تحبّها تتزوج الآن، لأنك هنا، ولست هناك.

لم أقل لك أي شيء من هذا، لأن الوقت قد أزف، لا وقت للبكاء يابني، الامتحان بعد يومين، هناك ثلاثة كتب يجب انهاؤها في يومين، يوم ونصف بالتحديد، ونحن لم ننجز شيئاً منذ ساعات لأنك تستمر بالتحدث عنها يا متولي، منذ خمس دقائق مثلاً حين دقّت ساعتك الكاسيو الرقمية بنت الكلب، أن الساعة قد وصلت للسابعة، نظرت للسقف ثم قلت لنا في حزن: "زمانه بيأكّلها الجاتوه دلوقتي". وأكملت:" ويمكن يبوس راسها كمان"
لا أعرف ما الذي تريد الحياة أن تخبرنا به، حين تختار الفتاة التي تحبها، أن تتزوج قبل امتحانك بيومين، آسف، يوم ونصف.. لكنني على كل حال، لا أجد وقتاً والله يا متولي للبحث عن سبب يعني، البحث عن سبب سيستغرق وقتاً، والحالة الواحدة في الكتاب ، تستغرق حوالي ثلث ساعة، يعني هذا أن أمامنا حوالي 8 ساعات مستمرة بلا انقطاع، دخول الحمام يا متولي.. دخول الحمام يا مؤمن، أصبح الآن مشكلة، فما بالك بالبحث عن الحكمة وراء الأحداث..

على كل حال أنا لم أعلق بكلمة حتى بدأت أنت باستدعاء ابيات لنزار قباني، هذا مبالغ فيه يعني يا متولي، اعرف انك حزين، وانها تأكل الجاتوة من يد شخص غيرك، وربما كذلك يقبل رأسها، التي أصبح من حقّه وضع شفتيه عليها، بعد كتب الكتاب، ولكن ماذا تنتظر منّي حين اسمعك تعيد رأسك للوراء وتقول بشجن : "مابين امرأة ودّعتني، وامرأة سوف تأتي، أحبكِ أنتِ".. لهذا، لم أحتمل، فقاطعتك لأقول لك: "ارحم ميتين أبونا بقا يا متولي، وذاكر، الامتحان فاضل عليه أقل من 48 ساعة".. وانت سمعت الجملة، وحزنت.. أعرف هذا، لأنك صمتّ، ووضعت رأسك في كتابك ولم تنطق بكلمة طيلة بقية الجلسة..

لم اتبادل معك حديثاً آخر، خرجت إلى البلكونة، لاستريح قليلاً، وشعرت بالنمل يسري في قدمي وأنا أقف لاول مرة منذ فترة، وضعت كوب الشاي بجواري، واشعلت سيجارة، وبدأت أنظر للشارع في حكمة..

شعرت بالذنب مباشرة مع اول دفعة دخان خرجت من انفي، كان يجب أن أتركك تكمل القصيدة يا متولي، لم يكن عليّ مقاطعتك بهذا الشكل، أن أقول لك ارحم ميتين أبونا، لأن الوقت لم يعد يسمح بقصيدة بائسة، لكن ماذا أفعل؟ الامتحان بعد يومين، يوم ونصف بالظبط.

فكّرت أن الطب حزين بشكل عام، واننا نحارب طواحين الهواء، وكل هذه الأفكار التي قرأتها أنت وسمعتها ألف مرة في ألف مكان، وأنك طبيب جرّاح، قلوب الناس تداويها في الوقت الذي قلبك فيه مجروح جداً، وهذا سخيف أن ينطبق عليك أغنية لأبو وديع، لكن لا بأس يا متولي.. لا بأس..
ثم شعرت، فجأة، أن سرطان الشعب الهوائية مرض محترم.. أعني انه لا يأتي إلا حينما تشرب السجائر بمعدل ٍكثيف، كما أفعل الآن يعني، ليس حزيناً كملاريا تأتي بلدغة ناموسة تافهة، وتؤدي إلى حمّى لا معنى لها، ثم علاج يؤدي إلى أمراض نفسية مصاحبة، سرطان الرئة يضعك أمام اختيارين يعني، لو فعلت كذا، فانت في طريقك لكذا، ولم لم تفعل، فأنت لست على الطريق.. هذا جيد يا متولي. رغم كل شيء هذا جيد..
أريد أن أعيش أكثر يا متولي، رغم أن الحياة مؤلمة، ورغم أنك نموذج أمامي أراه يذاكر الباطنة بدلاً من وضع الجاتوه في فم حبيبته، وتقبيل جبهتها، إلا أني أريد أن أحياً أكثر_ولو قليلاً حتّى_ وحتى لو لم أقبل جبهة حبيبتي، أو أضع الجاتوة لها في فمها_وهذا شيء رخيص جداً يا متولي لكن لا بأس سنتغاضى ليكتمل المجاز _وأريد أن أشاهد فيلم شجرة الحياة. ولهذا، وبلا مقدمات والله، قررت أن ألقي بالسيجارة في الشارع المظلم أمامي، دون حتى أن أحتفظ منها بتذكار آخر نفس .. وشاهدتها تهبط بحرية ثم تتهشّم على الطريق لعدة قطع مضيئة..

في الشارع المظلم، الذي ألقيت فيه السيجارة، والذي أمشي فيه الآن عائداً إلى بيتي، لأنام ساعتين واستيقظ لأستكمل المذاكرة، فكرت أني كان يجب أن أقول لك قصيدة ما، وأن أقول لك أن قصيدة نزار جميلة..
لكن لا بأس يا متولي. لا بأس.. لا تحزن. في نهاية الأمر كل شيء سينتهي يا متولي والله، أنت ستفنى، وأنا كذلك، وكتب الباطنة، وهي، وجبينها الذي يتم تقبيله الآن، كلنا سنفنى، سنتلاشى، حتّى قطعة الجاتوة سيتم تدويرها لتستقر في النهاية كجزء من لحاء شجرة، وفيلم شجرة الحياة سينتهي أيضاً، إذا كانت البني آدمين بتموت يعني يا متولي..

كان يجب على الزمن أن يتوقف يا متولي، كان يجب عليه أن يتوقف لفترة، تحزن فيها كما تشاء، وتبكي، وتتوقف عن المذاكرة دون أن أقول لك ذاكر،  وتقول شعراً لنزار، و ننتظرك لتنتهي من بكائيتك، التي ستسمع فيها الأطلال ألف مرة، وأثناء ذلك تتوقف القطط عن الموت تحت عجلات السيارات المسرعة، لتربّت على كتفك، وأن تعتذر منك الفتاة حتى ترضى، وتسمح لها بالزواج. وتتوقف الملاريا عن اصابة الناس لفترة لأن هذا حزين يا متولي.


هناك 10 تعليقات:

Aya يقول...

مزيج ابن لذينا من الضحك، و البؤس، و السخرية مغلف بصوت أم كلثوم و هي ترثى لحال كل من يذاكرون - الباطنة أو سواها - و يتذكرون ما لا يجب أن يُذكر ...

تسلم إيدك يا أبو جمال - كالعادة

غير معرف يقول...

كفاءة يابني والله
فكرتني بالميكانيكا اللي ورايا ربنا يسامحك ..
بارع كالعادة في وصف الحالة .. والقصة مكثفة جدا ما بين الأفكار السيريالية والواقعية والأحداث والحوار .. وممتعة ودي أكبر ميزة في أعمالك كلها .. محتاجة تتقري أكتر من مرة بالتأكيد .

طبعا تعبت م الضحك على "ارحم ميتين أبونا بقى يا متولي " .. صادمة وجاحدة بما لا يخالف شرع النص .

ع*2
أو (موافي) عشان المعجبات حفظهن الله

غير معرف يقول...

نفسي تكتب تدوينة مشرقة أسلوبك أكثر من رائع لكن انت كمان زي متولي

غير معرف يقول...

نفسي تكتب تدوينة مشرقة أسلوبك أكثر من رائع لكن انت كمان زي متولي

غير معرف يقول...

مُضحكة.. مُرهقة ,أسلوبك رائع (Y)

Doha يقول...

أول مرة أدخل هنا..
وسعيدة إني جيت الحقيقة :))
أعانك الله على الباطنة وأعانا على الأنف والأذن :D

Ghaida Abu Kheiran يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
غير معرف يقول...

أنا مجرد عابر سايبري
أعلق الان علي هذا البوست في الساعه 7:29
صباحا
في ناحية من نواحي شمال مصر
أعجبني هذا الكلام ، وربما يدفعني لاأن أعيد النظر في أغاني أم كلثوم و أشياء أخري
يكفي هذا
أنا حزين الان
وتعليقي هذا لن يغير من الواقع شئ

لمن يهمه الأمر يقول...

كلنا متولى ... نتمنى ان لا نكونه فنصبحه وكأن القدر يعاند

غير معرف يقول...

انا حزينة جدا الحقيقة لأني بذاكر باطنة و الوقت مش راضي يقف شوية لحد ما نخلص حزننا على مآسينا الشخصية
😭

المتابعون