الاثنين، 16 يناير 2012

عن الأفيال الوردية

كانت هذه هي المرة الثالثة التي أهزه فيها ليستيقظ، في المرة الأولى ابتسمت محاولاً بعبثية تامة أن أعطف عليه وأنا ألمح وجهه المتململ، وعينه التي لم يفتحها أصلاً.. المرة الثانية تقلّب وكأنه في سرير بيتهم، لا نائماً في الشارع، فشعرت بالزهق، وأنني غير قادر على المواصلة هكذا، حتى لو أردت، والثالثة تمتم بكلام لم أفهمه، جعلني أغضب فعلاً، فأهزه بعنف أكبر وأقول له بصوتٍ عال: "اصحى بقا" .. 
وهو انتفض، بسرعة قام من مكانه ممسكاً العصا المعندية التي استلبها من جندي أمن مركزي منذ يوم وكان فخوراً بها كطفل يمسك لعبته الأثيرة.. ركض إلى خارج الحبل البائس الذي ارتجلناه كفاصل للمستشفى عن الشارع، ووقف صارخاً : "ها .. فين ؟ فين ؟ "
قلت له أن يهدأ، لا داع للفزع.. وكل شيء تمام، والأمن مستتب، وكل شيء تحت السيطرة، وأنا لازم أنام.. وهو لم يترك لي فرصة اكمال ما أقول، وهو يتحرك بهدوء إلى مكانه الذي تركه، اندس تحت الغطاء، محتضناً العصا، وأنا قلت بصوت مرتفع ليسمع :"الله يخرب بيت أمّك يا سيد"

** ** ** **

نظرت في ساعتي، كانت تقترب من الخامسة صباحاً، ومسألة ابقاء عيني مفتوحة بعد أربعة أيام من الاستيقاظ المتواصل، اصبحت مستحيلة..

بعين نصف مغمضة، بحثت عن الاستاذ عادل.. بدا من الصعب تمييزه وسط كل هذه الأجساد الممدة، والأغطية التي تخفي الوجوه في هذا الجو.. قدّرت مكانه، وهززته، استيقظ مباشرة بلا عناء، نظر لي بلا تركيز ثم قال : "خير يا دكتور؟"..قلت له أن سيد نائم حتى الآن، وأنا لم أنم منذ أربعة أيام، وسيد نام خمس ساعات ونحن قد اتفقنا أننا سنبدل الورديات كل خمس ساعات يا أستاذ عادل.. وأنني ربما أنام وأنا أكلمه أساساً..

بدا على وجهه الامتعاض، وقال لي : "مينفعش الكلام دا".. قلت له :"بالظبط".. فقال:"تهريج بجد.. المفروض هو نام كويس، كفاية عليه الخمس ساعات بتوعه، في غيره منمش.. وانت دكتور وملكش دعوة بالأمن أصلاً" ..هززت رأسي، بالظبط.. بالظبط.. هناك كذلك نقطة أنني لم أنم منذ أربعة أيام، وأنني بدأت أرى أفيالاً وردية وهذا خطر.. الرجل تحمّس، وبدأ صوته يعلو وهو يقول لي :"يعني الدينا هديت النهاردة ومحصلش ضرب لأول مرة من أربع أيام كلها طحن، وهو مستخسر فيك كام ساعة نوم" .. وأنا هززت رأسي بأسف، فهز رأسه بأسف، وقال لي :"طيب حاول معاه تاني" .. وبسرعة استلقى، ولفح الغطاء على وجهه، أنا نظرت له عاجزاً عن التفكير في رد مناسب لأني انشغلت بمحاولة ابقاء عيني مفتوحة بمجهود مستمر

** ** ** **

استيقظ سيد بعد أن لكمته في ذراعه.. صرخ، وقال لي :"أ*ا يا دكتور، ايه شغل العيال دا".. قلت له أنه استيقظ، مبروك، وأنني سأنام، الآن، وحالاً.. جررته من ذراعه، فوقف، واحتللت مكانه، شعرت أن عظام جسمي متكسرة فقط لمجرد أنني مددتها للمرة الأولى منذ أربعة أيام.. قلت لنفسي، أربعة أيام.. تذكر أنك واصلت لأربعة أيام.. قبل أن أفكر في شيء آخر، شعرت بجزء من الغطاء، يُسحب، وسيد مستلقٍ بجواري، وهو يقول لي: " سيب شوية من عندك يا دكتور".. وأنا نظرت له وقلت:"سيد.. على فكرة مش المفروض إننا ننام إحنا الإتنين، المفروض إنت تصحى دلوقتي وأنا انام".. وسيد نظر لي وكأنني اخرف وقال:" تفتكر لو أنا صحيت، وهمّا هجموا علينا، هحميكوا أنا يعني؟ " ثم اعتدل، وعلا صوته وقال :" والمصحف..شوف والمصحف؟ لو المشير بنفسه وقف فوق دماغي وأنا نايم، ما هصحى.. لا أنا ولا أنت هنعمل حاجة يا بني.. نام الله يكرمك".. وتركني ومدد.. بعدها بلحظات، علا صوت شخيره المنتظم..

وأنا نظرت لسيد، هرشت في رأسي قليلاً، وقلت له بصوت واضح :" الله يحرقك يا سيد" ثم شددت الغطاء على رأسي، ونمت..


المتابعون