الثلاثاء، 29 مايو 2012

لماذا يجب على الواحد أن يتوقف عن قراءة الكتب المهمة


في النهاية، لن تبقى الا الاشياء التي فعلناها بلا نيّة مسبقة، دون تخطيط مبدئي أو تفكير فيما يجب أن تكون الأمور عليه، في النهاية سيبقى الارتباك الأبله المرتجف، والنظرات المختلسة، والمراقبة من بعيد، محاولة التفكير في شيء شديد الذكاء لقوله، ثم لوم النفس بعنف على الكلام الأخرق الذي ينتج كل مرة.

كل شيء بعد هذا، يتساوى بأي شيء آخر 

الثلاثاء، 17 أبريل 2012

يوميات الباطنة - متولي



عندما قام متولي من مكانه على الكرسي البلاستيك البنّي، وذهب إلى اللاب توب ليغير الأغنية، لم أعلق. حتى عندما اختار الأطلال، وسألني إن كنت أريد الاستماع إليها، رفعت رأسي عن الكتاب، وهززتها سريعاً، كنت أود أن أقول له، أن بامكانه اختيار أي أغنية يريد طالما سيصمت ويتوقف عن الحديث عنها، ويذاكر..

هنالك حكمة من اختيار أم كلثوم يا متولي، أعرف أنك تعرفها طالما لم تبتعد عن أم كلثوم في اختياراتك طوال الليلة، يستعينون على المسافات الطويلة بأم كلثوم عموماً، هي تناسب الرحلات بين المحافظات التي تستهلك أكثر من ساعة، الانتظار الطويل الممل الممتد، ومذاكرة الباطنة مثلاً. أثناء ولادتي يا متولي_لم أحك لك هذه الحكاية قبلاً_ استعان أبي بأم كلثوم، لم يستطع مقاومة القلق على الولادة المتعسرة لأبنه الأول، تلك التي كادت تودي بأمي، فترك المستشفى بما فيها، وذهب إلى السيارة الفيورا الصغيرة التي كان يملكها آنذاك، واستمع لشرائط أم كلثوم بالكامل في كاسيت العربة البائس..

لا بأس يا متولي، فلنستمع إلى الأطلال، أينعم أنت منعت عنّا عدّة أغاني مشرقة، وأنا شخصياً كنت في انتظار انت عمري، لكنك قاطعت رقّ الحبيب، لتسمع نحيب قلبك صادراً من حنجرتها، لكن لا بأس طالما ستتوقف عن الكلام عنها..

كنت أذاكر الملاريا، وأفكر أنّها حالة حزينة، فكّرت أن أقول هذه الملاحظة التي اعتقدت أنها ذكية، لكنني حين نظرت لوجهك الأصفر، قلت أنني سأنتظر حالة أخرى سعيدة أخبرك بها، هي نفس الفكرة يعني في النهاية، الفرق فقط في الشعور الذي ينتقل من الحالة.. يمكنني أن أخبرك الآن على كل حال أن الملاريا حالة حزينة يا متولي. يا الله.. حمّى تهدأ، لتبدأ من جديد في سلسلة ملعونة لا تنتهي، يشعر المريض بالبرد، ودرجة حرارته تتجاوز الأربعين، ثم يشعر بنار الله الموقدة بعد ساعتين، حيث يجب تصريف الحرارة هذه بشكل ما، وبعدها يا متولي، ينام متعباً، لتبدأ السلسلة هذه من جديد، وأما العلاج فيؤدي إلى هلاوس نفسية! قلّي هل هناك ما هو مثير للحزن أكثر من هذا؟

نعم.. هناك ما هو مثير للحزن أكثر ، ابتسم بشفقةٍ الآن، أعرف أن هناك ما هو أكثر..

منذ نصف ساعة بالظبط، وبينما تغني أم كلثوم شيئاً ما لا أذكره عن الأمل، نظر متولي للسقف طويلاً، وقال بحسرة: "المفروض مكونش هنا على فكرة".
المفروض ألا يكون أحد منّا هنا يا متولي في الحقيقة، المؤكد أننا كان يمكن أن نكون في كل مكان إلا هنا، نذاكر الباطنة يا متولي، كان يمكن أن أكون على شاطيء البحر، أبلل قدمّي بالماء المالح بينما تمشي فتاة جميلة بجواري، أو أمشي فقط دون أن يكون بجواري أحد، أو أتظاهر بالسباحة، بينما أكتفي بتحريك الماء من حولي، كان يمكن أن أمشي في مظاهرة أهتف فيها بسقوط واحد من أولاد الحرام الذين يتكاثرون ذاتياً، أو حتى أنام، أنام فقط.. أو اشاهد فيلم شجرة الحياة الذي أريد مشاهدته منذ سنة ونصف، هل هذا صعب؟ قل لي بصراحة يعني، هل هذا صعب؟
لكن المعضلة وجودية بالأساس، أنت هنا تفعل شيئاً ما، لأنك لست موجوداً في مكان مختلف تفعل شيئاً آخر. أنت تذاكر الباطنة وتترك الفتاة التي تحبّها تتزوج الآن، لأنك هنا، ولست هناك.

لم أقل لك أي شيء من هذا، لأن الوقت قد أزف، لا وقت للبكاء يابني، الامتحان بعد يومين، هناك ثلاثة كتب يجب انهاؤها في يومين، يوم ونصف بالتحديد، ونحن لم ننجز شيئاً منذ ساعات لأنك تستمر بالتحدث عنها يا متولي، منذ خمس دقائق مثلاً حين دقّت ساعتك الكاسيو الرقمية بنت الكلب، أن الساعة قد وصلت للسابعة، نظرت للسقف ثم قلت لنا في حزن: "زمانه بيأكّلها الجاتوه دلوقتي". وأكملت:" ويمكن يبوس راسها كمان"
لا أعرف ما الذي تريد الحياة أن تخبرنا به، حين تختار الفتاة التي تحبها، أن تتزوج قبل امتحانك بيومين، آسف، يوم ونصف.. لكنني على كل حال، لا أجد وقتاً والله يا متولي للبحث عن سبب يعني، البحث عن سبب سيستغرق وقتاً، والحالة الواحدة في الكتاب ، تستغرق حوالي ثلث ساعة، يعني هذا أن أمامنا حوالي 8 ساعات مستمرة بلا انقطاع، دخول الحمام يا متولي.. دخول الحمام يا مؤمن، أصبح الآن مشكلة، فما بالك بالبحث عن الحكمة وراء الأحداث..

على كل حال أنا لم أعلق بكلمة حتى بدأت أنت باستدعاء ابيات لنزار قباني، هذا مبالغ فيه يعني يا متولي، اعرف انك حزين، وانها تأكل الجاتوة من يد شخص غيرك، وربما كذلك يقبل رأسها، التي أصبح من حقّه وضع شفتيه عليها، بعد كتب الكتاب، ولكن ماذا تنتظر منّي حين اسمعك تعيد رأسك للوراء وتقول بشجن : "مابين امرأة ودّعتني، وامرأة سوف تأتي، أحبكِ أنتِ".. لهذا، لم أحتمل، فقاطعتك لأقول لك: "ارحم ميتين أبونا بقا يا متولي، وذاكر، الامتحان فاضل عليه أقل من 48 ساعة".. وانت سمعت الجملة، وحزنت.. أعرف هذا، لأنك صمتّ، ووضعت رأسك في كتابك ولم تنطق بكلمة طيلة بقية الجلسة..

لم اتبادل معك حديثاً آخر، خرجت إلى البلكونة، لاستريح قليلاً، وشعرت بالنمل يسري في قدمي وأنا أقف لاول مرة منذ فترة، وضعت كوب الشاي بجواري، واشعلت سيجارة، وبدأت أنظر للشارع في حكمة..

شعرت بالذنب مباشرة مع اول دفعة دخان خرجت من انفي، كان يجب أن أتركك تكمل القصيدة يا متولي، لم يكن عليّ مقاطعتك بهذا الشكل، أن أقول لك ارحم ميتين أبونا، لأن الوقت لم يعد يسمح بقصيدة بائسة، لكن ماذا أفعل؟ الامتحان بعد يومين، يوم ونصف بالظبط.

فكّرت أن الطب حزين بشكل عام، واننا نحارب طواحين الهواء، وكل هذه الأفكار التي قرأتها أنت وسمعتها ألف مرة في ألف مكان، وأنك طبيب جرّاح، قلوب الناس تداويها في الوقت الذي قلبك فيه مجروح جداً، وهذا سخيف أن ينطبق عليك أغنية لأبو وديع، لكن لا بأس يا متولي.. لا بأس..
ثم شعرت، فجأة، أن سرطان الشعب الهوائية مرض محترم.. أعني انه لا يأتي إلا حينما تشرب السجائر بمعدل ٍكثيف، كما أفعل الآن يعني، ليس حزيناً كملاريا تأتي بلدغة ناموسة تافهة، وتؤدي إلى حمّى لا معنى لها، ثم علاج يؤدي إلى أمراض نفسية مصاحبة، سرطان الرئة يضعك أمام اختيارين يعني، لو فعلت كذا، فانت في طريقك لكذا، ولم لم تفعل، فأنت لست على الطريق.. هذا جيد يا متولي. رغم كل شيء هذا جيد..
أريد أن أعيش أكثر يا متولي، رغم أن الحياة مؤلمة، ورغم أنك نموذج أمامي أراه يذاكر الباطنة بدلاً من وضع الجاتوه في فم حبيبته، وتقبيل جبهتها، إلا أني أريد أن أحياً أكثر_ولو قليلاً حتّى_ وحتى لو لم أقبل جبهة حبيبتي، أو أضع الجاتوة لها في فمها_وهذا شيء رخيص جداً يا متولي لكن لا بأس سنتغاضى ليكتمل المجاز _وأريد أن أشاهد فيلم شجرة الحياة. ولهذا، وبلا مقدمات والله، قررت أن ألقي بالسيجارة في الشارع المظلم أمامي، دون حتى أن أحتفظ منها بتذكار آخر نفس .. وشاهدتها تهبط بحرية ثم تتهشّم على الطريق لعدة قطع مضيئة..

في الشارع المظلم، الذي ألقيت فيه السيجارة، والذي أمشي فيه الآن عائداً إلى بيتي، لأنام ساعتين واستيقظ لأستكمل المذاكرة، فكرت أني كان يجب أن أقول لك قصيدة ما، وأن أقول لك أن قصيدة نزار جميلة..
لكن لا بأس يا متولي. لا بأس.. لا تحزن. في نهاية الأمر كل شيء سينتهي يا متولي والله، أنت ستفنى، وأنا كذلك، وكتب الباطنة، وهي، وجبينها الذي يتم تقبيله الآن، كلنا سنفنى، سنتلاشى، حتّى قطعة الجاتوة سيتم تدويرها لتستقر في النهاية كجزء من لحاء شجرة، وفيلم شجرة الحياة سينتهي أيضاً، إذا كانت البني آدمين بتموت يعني يا متولي..

كان يجب على الزمن أن يتوقف يا متولي، كان يجب عليه أن يتوقف لفترة، تحزن فيها كما تشاء، وتبكي، وتتوقف عن المذاكرة دون أن أقول لك ذاكر،  وتقول شعراً لنزار، و ننتظرك لتنتهي من بكائيتك، التي ستسمع فيها الأطلال ألف مرة، وأثناء ذلك تتوقف القطط عن الموت تحت عجلات السيارات المسرعة، لتربّت على كتفك، وأن تعتذر منك الفتاة حتى ترضى، وتسمح لها بالزواج. وتتوقف الملاريا عن اصابة الناس لفترة لأن هذا حزين يا متولي.


الأحد، 11 مارس 2012

إني آنست ناراً


لم أكن طفلاً لين المعشر بشكل عام، في بدايات محاولة أبويّ تعليمي الصلاة بشكل منتظم، والتي كنت أقاومها بشراسة، وجدت الفرصة لسؤال جدي لأمي، الذي كان أزهرياً متديناً بشكل مفرط، عن السبب الذي يجعل كل الناس واثقين فعلاً من وجود الله، في حين أن أحداً لم يره يوماً..
كنا جالسين في شرفة البيت، هو ترك الكرسي كالعادة، وفرش سجادة الصلاة التي احتفظ بها منذ أن صلّى عليها أثناء الحج، وأنا اتجول على قدمي ذهاباً وإياباً، اسند ظهري قليلاً على الحائط واقول له: سيدنا موسى شاف ربنا.. 
يهز رأسه نافياً، يكرر لي أن أحداً لم ير الله فعلاً. كان أشعرياً، وبالتالي كان يؤمن بأن الله لم يظهر لسيدنا محمد حتى في الاسراء والمعراج.. 
ابتسم، قال لي أن سيدنا موسى أراد أن يشاهد الله جهرة، فقال له الله أن ينظر إلى الجبل، إذا احتمل تجلي الله، فسيظهر لموسى، وهو ما لم يحدث، تحول الجبل إلى تراب، بمجرد التجلى، والتجلي أقل درجة من الظهور حتى.. لكن الجبل لم يحتمل هذا، أصبح هشاً تقدر نسمة هواء على تفتيته قال لي هذا بإشفاق، حتى في هذه السن، ميزت نبرة الاشفاق هذه. قلت له أنني لا أفهم أي شيء.. تنهد وقال لي أنه أيضاً لا يفهم شيئاً.. حتى التجلي لموسى، أو طمأنة قلب إبراهيم، كانا لأنبياء، ونحن لسنا إلا مجموعة من البشر الذين لا وزن لهم.. 

في محمد محمود، ووسط الضرب، كان هناك ذلك الرجل.. لا أعرف إن كان مجذوباً أم درويشاً، 
أم أنه أساساً خيل إلي من فرط رعبي،
 لحيته الطويلة كانت ترجح كفة مجاذيب السيدة، لكن ملابسه، وهيئته التي استطعت تمييزها وسط الظلام كانت تقول إنه واعٍ تماماً  .. لكنني رأيته وسط الشارع، والرصاص يشق الهواء أسرع من جملة " خد بالك" التي نملك ترفها حين نتعامل مع الغاز، وتصبح عبثاً حين يبدأ الرصاص، رأيته وسط كل هذا يسجد، وسط الشارع بالظبط، وأنا شعرت أنني أتحول لترابٍ وأنني سأتهاوي لو مستني الريح كجبل موسى.. 


الأربعاء، 1 فبراير 2012

ورقة بحثية عن مخاطر إدمان الغاز المسيّل للدموع



أيامها كان كل ما يسيطر على تفكيري أنني سأجد فريد محمولاً بهرجلة، ثم مُرمياً على الأرض، ثم مطلوباً مني أن أعاينه، وأنني سأقف متسمراً، دون ان أتحرك خطوة. الأفلام الهندية لا يجب السخرية منها أو اتهامها بعدم الواقعية أبداً. تعلمت أنني لن أسخر من أي قصة مهما بدت مفتعلة، لن أتهكم على حكاية الولد الذي توقف عن تدخين الحشيش، ثم ذهب للمسجد ليصلي فمات وعلى وجهه ابتسامة التقوى.

لم يكن فريد هو الأكثر رعونة بيننا، لم يكن الوحيد الذي اقلق عليه كذلك، لكنه كان الوحيد الذي يقلقني بتصرفاته أكثر من الجميع، كان الأكثر تحليقاً بدماغه، وبشكل لا يتضمن أي افتعال كمحاولة لتشجيع نفسه أو الآخرين، كان يفعل هذا لأنه يفعل هذا في المعتاد، وغالباً لم يكن يرى سبباً لتغيير عاداته. لم أسمع عن بني آدم بكامل عقله دخل الخطوط الأولى لأي مواجهة في الدنيا، وتحديداً تلك التي تتضمن الغاز المسيل للدموع، مشعلاً سيجارته ! هذا يفوق حتى التصور العادي عمّا يفعله الأبطال، ساعتها لم أستطع تحديد هل هو أبله فعلاً لا يعرف الخطر الذي يواجهه، أو صوفي مؤمن بشكل يتجاوز التصور؟ أو حتى مدمن أدرينالين، كل هذه الأشياء كانت تقلقني أكثر فأكثر.
لكنني الآن أعرف أنه كان يتعامل مع الأمر على أساس أنه سبب للانبساط، شيء يفعل به ما يقوله في كلامه المعتاد مع أصدقائه.

واقفين على العشب، في الحديقة التي تقع أمام صيدلية ملاك، عدت منذ لحظات من المستشفى، أستريح قليلاً، وأفكر في النوم بعض الوقت، وفريد يقوم من رقدته، منهياً فترة الراحة، عائداً إلى ولاد الوسخة، أتابع ببصري فريد وهو يعدّل هندامه بهدوء وتأن، كالمقبل على مقابلة مهمة، يخرج الآيس كاب من جيب الجاكيت، ويدخل يده فيه برويّة ليعدل من وضعه بعد تجعّده في الجيب، لا يجب أن يكون الآيس كاب مجعداً طبعاً، هذه من الأمور الأساسية، خاصة عندما تواجه رصاص الداخلية، بعدها يأتي دور الكوفية التي يرتديها بهدوء شديد، ويعدل وضعها لا على وجهه كما يفعل الثوار السيس، بل على رقبته ككمال الشنّاوي في شبابه، يقول بصوت متوسط:"تمام كدا"، يمد يده إلى جيب الجاكيت الآخر، ويخرج علبة سجائره المعدنية.. لا يسحب فريد سجائره من علبة سجائر ورق كما يفعل المدخنون السيس، بل يقوم بتفريغ السجائر من العلبة الورق إلى العلبة المعدنية التي يحملها معه دائماً، غالباً يفعل هذا لأنه لا يحب صورة الرئة المشوهة، أو القدم المصابة بالجذام على العلبة، فريد لا يخاف على صحته وإلا لكان توقف عن التدخين، لكنه لا يحب القرف غالباً، يشعل سيجارته الكولوباطرا، ويضيق عينيه وهو ينفث دخان أول نفس بإستمتاع، ثم يقول بهدوء للواقفين والجالسين :"مش يالّا بقا؟"

** ** ** **

لا أحد يعرف بالتحديد كيف أصبح فريد صديقاً له، وبشكل عام كذلك، لا يعتبر أحد أن فريد صديقه.. على العكس، فريد "صديقنا"، نعتبره ملكيّة عامة، لنا جميعاً. وهو الذي دخل في حياتنا كذلك، بالطريقة التي أرادها هو، مقرراً شكل الصداقة هذه منذ أول لحظة. في يونيو 2011 كنت غالباً أفكر في الباطنة، أو في شيء يتعلق بالباطنة، أو في شيء أتمنى فعله لولا الباطنة، عندما وجدت مستطيل المحادثة على الفيسبوك ينير بإسم فريد، الذي لم أكن أعرف عنه حينها إلا أن دماغه حلوة، وذوقه برنس، قال :"مساء الأنوار" ثم سألني عمّا أفعله مع جزارة البني آدمين التي أدرس فيها، ضحكت فعلاً من التعبير، ولم أندهش بعدها حين عرفت أن أمنية حياة فريد هي جثّة مصنوعة على يده.. ليس هذا مزاحاً بالمناسبة، وهذه هي المسخرة بالظبط..

في فترة ما، كان السؤال الأهم: "هو مين فريد إتش وهدان دا؟".. اذكر جيداً أن عدد من سألني هذا السؤال في يوم واحد تجاوز الخمسة.. نحن استيقظنا من النوم، فوجدنا فريد، الذي يتصرف بشكل يوحي به أنه يعرفنا جيداً، وأننا كذلك نعرفه بذات القدر. دون أن نشعر بكثير من الغرابة فيما نفعله، أو نفكر فيه مليّاً، أصبح فريد وسطنا بشكل طبيعي تماماً، كأن هذا مكانه الذي تركه قليلاً ثم عاد ليجده كما كان، كما يترك المرء حقيبته في مكان من المدرج، ليشتري كوباً من القهوة قبل المحاضرة، ثم يعود ليطالب بحقّه في هذا المكان، فنفسح له.

** ** ** **

ربما لأنه كان أكثر من يعرف ترددي ناحية ممارسة الطب بعد التخرج، قبل النوم، حوالي الساعة 12، استعداداً للاستيقاظ في الفجريّة، ميعاد ضرب الأمن المعتاد، سألني فريد وهو يعدل البطّانية الثانية التي فرشها على الأرض، "وإنت عامل إيه كدا"، هذه الجملة ربما تكون لازمة فريد الأهم، مفتاحه الأساسي لبدء أي حوار، قلت له أنني تمام، قال لي تمام، مدد على الأرض، وسند ظهره على النخلة، وانتظر حتى فعلت مثله ثم سألني بهدوء وكأنه يكمل حوارنا الممتدد، "وإنت ناوي تكمّل في طب بقا"..قال لي هذا وكأنه يقرر أمراً واقعاً، لا سؤالاً ينتظر مني إجابته، هززت رأسي بلا معنى وأنا ابتسم بخجل وكأنه من العيب أن يقول لي هذا قبل أن أحكي له هذا بنفسي.

يوماً ما، لا أذكر بالظبط المناسبة، قال لي فريد وهو يبتسم مليء شدقيه كالعادة :"ربّك بيسترها مع الخائفين"، وأنا اعتبرها الآن واحدة من أجمل الجمل التي سمعتها في حياتي، والتي لم أفهمها إلا متأخراً، الخوف عامل مهم نستحق به شفقة الله. لأننا خائفون مما سيحدث لنا، فغالباً لن يوقعه بنا، رحيمٌ فيما يتعلق بهذه النقطة.

** ** ** **

أناقش مع فريد مواضيعاً فلسفية ممتعة غالباً قرب الفجر، يكون كل الخلق قد ناموا، والفيس بوك ممل كالعادة، عندها أزوره أو يزورني، مصطحباً معي الـ"إصطباحة" التي سنتقاسمها، أو حين يعثر هو على بضاعة تستوجب القسمة على اتنين، لا يجب أن يمسك أي شخص السلك العريان وحيداً، لابد من نديم للشراب، فريد هو نديم شرابي في المعتاد، لا تكتمل الاصطباحة، إلا لو وصلت ليديه كذلك، أو السؤال الذي سيسأله واحد منا للآخر، بداية من سبب تعفّن جثث البني آدمين، وبم تفسر القانون الذي ينص أن كل اللبنانيّات مزز ثم تحطيم التساؤل نفسه: ومن قال أصلاً أن كل اللبنانيّات مزز؟ إشاعات.. والعودة للأصل: سيبك، المصرية تكسب، خفة الدم أعلى من السيليكون،  سؤال عابر ثابت ممتد منذ قرون عن السبب الذي يجعل من الصعب قتل مونيكا بيلوتشي لأنه حرام يكون حدّ جميل بهذا الشكل. ثم سؤال بعدها مباشرة عن جثّة مونيكا بيلوتشي بعدما تتعفن، هل ستتعفن؟ أقول له أن جثث الشهداء وحدها هي التي تحتفظ بحالتها، ثم ننتبه معاً لجملة : "الشهيدة مونيكا بيلوتشي"، فنضحك،

نقطع الكلام حين يقوم واحد منا لتدخين سيجارة في السريع، أو حين يجب النوم. لا أعتقد أنني قلت هذا لفريد يوماً ما، لكن فؤاد حدّاد يوماً ما كتب قصيدة من قصائد المسحراتي، غنّاها الشيخ سيّد مكاوي، صاحب البهججة كما نسميه، يقول فيها:"وأنا المغني، ولجل إنّي، يدوم شبابي، ينقص منابي، من السنابل، لكن مناب الأمل تمام".. يمكن للمرء أن يكتفي بهذا حين يتحدث عن فريد، لكنّه الغرور الذي يجعل المرء متوقعاً أنه سيقول المزيد في أي لحظة..

على أنني وأنا واقف في مستشفى/ مسجد عباد الرحمن، في فترات الراحة المختلسة وسط العكّ، تذكّرت أن الله سيسترها مع الخائفين، يكفي كل ما حدث، يكفي جداً،  لن يكون المُصاب غالباً أكبر من هذا، وابتسمت.




الاثنين، 16 يناير 2012

عن الأفيال الوردية

كانت هذه هي المرة الثالثة التي أهزه فيها ليستيقظ، في المرة الأولى ابتسمت محاولاً بعبثية تامة أن أعطف عليه وأنا ألمح وجهه المتململ، وعينه التي لم يفتحها أصلاً.. المرة الثانية تقلّب وكأنه في سرير بيتهم، لا نائماً في الشارع، فشعرت بالزهق، وأنني غير قادر على المواصلة هكذا، حتى لو أردت، والثالثة تمتم بكلام لم أفهمه، جعلني أغضب فعلاً، فأهزه بعنف أكبر وأقول له بصوتٍ عال: "اصحى بقا" .. 
وهو انتفض، بسرعة قام من مكانه ممسكاً العصا المعندية التي استلبها من جندي أمن مركزي منذ يوم وكان فخوراً بها كطفل يمسك لعبته الأثيرة.. ركض إلى خارج الحبل البائس الذي ارتجلناه كفاصل للمستشفى عن الشارع، ووقف صارخاً : "ها .. فين ؟ فين ؟ "
قلت له أن يهدأ، لا داع للفزع.. وكل شيء تمام، والأمن مستتب، وكل شيء تحت السيطرة، وأنا لازم أنام.. وهو لم يترك لي فرصة اكمال ما أقول، وهو يتحرك بهدوء إلى مكانه الذي تركه، اندس تحت الغطاء، محتضناً العصا، وأنا قلت بصوت مرتفع ليسمع :"الله يخرب بيت أمّك يا سيد"

** ** ** **

نظرت في ساعتي، كانت تقترب من الخامسة صباحاً، ومسألة ابقاء عيني مفتوحة بعد أربعة أيام من الاستيقاظ المتواصل، اصبحت مستحيلة..

بعين نصف مغمضة، بحثت عن الاستاذ عادل.. بدا من الصعب تمييزه وسط كل هذه الأجساد الممدة، والأغطية التي تخفي الوجوه في هذا الجو.. قدّرت مكانه، وهززته، استيقظ مباشرة بلا عناء، نظر لي بلا تركيز ثم قال : "خير يا دكتور؟"..قلت له أن سيد نائم حتى الآن، وأنا لم أنم منذ أربعة أيام، وسيد نام خمس ساعات ونحن قد اتفقنا أننا سنبدل الورديات كل خمس ساعات يا أستاذ عادل.. وأنني ربما أنام وأنا أكلمه أساساً..

بدا على وجهه الامتعاض، وقال لي : "مينفعش الكلام دا".. قلت له :"بالظبط".. فقال:"تهريج بجد.. المفروض هو نام كويس، كفاية عليه الخمس ساعات بتوعه، في غيره منمش.. وانت دكتور وملكش دعوة بالأمن أصلاً" ..هززت رأسي، بالظبط.. بالظبط.. هناك كذلك نقطة أنني لم أنم منذ أربعة أيام، وأنني بدأت أرى أفيالاً وردية وهذا خطر.. الرجل تحمّس، وبدأ صوته يعلو وهو يقول لي :"يعني الدينا هديت النهاردة ومحصلش ضرب لأول مرة من أربع أيام كلها طحن، وهو مستخسر فيك كام ساعة نوم" .. وأنا هززت رأسي بأسف، فهز رأسه بأسف، وقال لي :"طيب حاول معاه تاني" .. وبسرعة استلقى، ولفح الغطاء على وجهه، أنا نظرت له عاجزاً عن التفكير في رد مناسب لأني انشغلت بمحاولة ابقاء عيني مفتوحة بمجهود مستمر

** ** ** **

استيقظ سيد بعد أن لكمته في ذراعه.. صرخ، وقال لي :"أ*ا يا دكتور، ايه شغل العيال دا".. قلت له أنه استيقظ، مبروك، وأنني سأنام، الآن، وحالاً.. جررته من ذراعه، فوقف، واحتللت مكانه، شعرت أن عظام جسمي متكسرة فقط لمجرد أنني مددتها للمرة الأولى منذ أربعة أيام.. قلت لنفسي، أربعة أيام.. تذكر أنك واصلت لأربعة أيام.. قبل أن أفكر في شيء آخر، شعرت بجزء من الغطاء، يُسحب، وسيد مستلقٍ بجواري، وهو يقول لي: " سيب شوية من عندك يا دكتور".. وأنا نظرت له وقلت:"سيد.. على فكرة مش المفروض إننا ننام إحنا الإتنين، المفروض إنت تصحى دلوقتي وأنا انام".. وسيد نظر لي وكأنني اخرف وقال:" تفتكر لو أنا صحيت، وهمّا هجموا علينا، هحميكوا أنا يعني؟ " ثم اعتدل، وعلا صوته وقال :" والمصحف..شوف والمصحف؟ لو المشير بنفسه وقف فوق دماغي وأنا نايم، ما هصحى.. لا أنا ولا أنت هنعمل حاجة يا بني.. نام الله يكرمك".. وتركني ومدد.. بعدها بلحظات، علا صوت شخيره المنتظم..

وأنا نظرت لسيد، هرشت في رأسي قليلاً، وقلت له بصوت واضح :" الله يحرقك يا سيد" ثم شددت الغطاء على رأسي، ونمت..


المتابعون