الاثنين، 26 سبتمبر 2011

حسن الأسمر ليس في الكتب



في سن التاسعة، وبعد أن قمت بواحدة من أكبر الكوارث التي يمكن تخيلها في تاريخ طفولة أي كائن بشري، وبعد غضبة أسطورية من أبي تليق بكبير آلهة الأولميب، تسللت جدتي إلى الحجرة التي لجأت إليها بعد نهاية العاصفة.. القاعدة تنص على أن الجدات حكيمات إلا المريضات النفسيات منهن، جدتي كانت سليمة العقل حتى لحظة وفاتها، سليمة العقل أكثر من اللازم ربما..
كنت على سريري، ولم أكن أبكي، وهي عادة سأصطحبها معي فيما بعد، جلست بجواري وقالت لي انها ستقول لي ما يجب أن"أضعه حلقة في أذني".. أخذت نفساً عميقاً ثم قالت لي "قبل ما تعمل حاجة".. استدارت لي، ورفعت سبابتها في وجهي وهي تكرر :" أي حاجة "، ثم وهي تنظر في عيني هذه المرة: " أي أي أي حاجة .. شوف اذا كانت تستحق بلاويها ولا لأ"

في سن التاسعة، لم يكن ما فعلته، يستحق البلاوي التي تبعته..
كانت هذه طريقة في غاية الذكاء لرؤية الأمور، تجعل المرء يرى الأمور بحجمها الطبيعي، وتجعله يرى نفسه بحجمها الطبيعي والأهم يدرك جيداً عواقب ما يفعل، قبل الفعل نفسه..

** ** ** ** 

كنت طفلاً شديد الانطواء، انعزلت بعد فترة من الشقاوة المجنونة، تحديداً بعد التغريبة الأولى تجاة دولة من دول الخليج النفطية، واكتشفت أن هناك شيئاً ممتازاً يفعله الناس حين لا يجدون شيئاً آخر يفعلونه: القراءة، القراءة، والمزيد والمزيد والمزيد من القراءة، مللت سريعاً من برامج التلفزيون المحدودة في ذاك الوقت، وتزامن هذا مع اكتشافي المُدهش لنبيل فاروق، الذي مللته سريعاً هو الآخر حين اكتشفت أنه يكرر حبكاته بتناحة غير طبيعية، بعد 500 عدد تقريباً قررت ألا اقرأ لهذا البصمجي مرة أخرى، بغض النظر عن تعداد الكتب التي قرأتها، كنت قد قرأت كثيراً جداً جداً، وربما قررت حينها أنني أحكم بني آدم على وجه الكرة الأرضية، الأمر الذي دعا أبي لاطلاق لقب :"سقراط" عليّ دون عناء كبير، كان هذا هو نفس الوقت تقريباً حين سألني خالي بسخرية عما أقرؤه بالظبط، كنت جالساً باسترخاء وبين يديّ كتاب اقرؤه، كنت في مصر، الأجازة السنوية التي كنت أقضيها كاملة في البيت كطفل لا يحب الآخرين، لم أكن قد التقطت سخرية خالي من كل شيء، نبرته التي تقارب العبثية لم تكن بعد ضمن المفردات التي أضعها في اعتباري وأنا أتعامل معه، لهذا كانت سخريته بالنسبة لي أمراً ممقوتاً وبشدة.. صعبة الرد عليها لأنها شديدة الذكاء، وتضايقني بشدّة، لأنني كنت متخلفاً لأتعامل معها بجدّية مفرطة، كانت تمثّل شيئاً مربكاً بالنسبة لطفلٍ يعاني من متاعب في التواصل.

قلت لخالي أنني اقرأ كتاباً ما، فسألني أنه يعرف أنني اقرأ كتاباً ما، هو يسألني عن ماهية الكتاب نفسه.. لم أرد، فقال لي : "الأستاذ حسن الأسمر عندك؟" ..
لم أكن أعرف من هو الأستاذ حسن الأسمر بالظبط، عقدت حاجبي، وسألته من هو الأستاذ حسن الأسمر، فرسم على وجهه أفظع علامات الدهشة، وسألني وهو يهز رأسه: "إنت بجد.. بجد.. متعرفش الأستاذ حسن الأسمر؟".. أذكر جيداً القشعريرة التي انتابتني، اللعنة! .. أنا لا أعرف حسن الأسمر، الألعن: يبدو أنه مهم بشدّة لأعرفه، ويبدو عدم معرفته مدهشاً لهذه الدرجة.. قلت له أنني لا أعرف الأستاذ حسن الأسمر، بخجل قلت له أنني لا أعرفه، فرد علي باستهجان: "أمال بتقرا إيه في الكتب اللي معاك دي؟"..أشحت بنظري، فاستمر هو:"يابني إنت بتقرا كل الكتب، وسايب أهم كتاب" شعرت بالعار.. أنا بالظبط اقرأ كل مالا يهم قراءته. 

لم أستطع أن اسأل عن حسن الأسمر، لم أكن لأحتمل نظرة السخرية تلك مرة أخرى، كان الشعور قاسياً جداً واستمر معي لأيام، أنا اقرأ كل هذا، ولا أعرف حرفاً عن شيء رأيت في نظرة خالي عنه كل شيء. 

تركني خالي وحيداً اتخبّط، ولم أسمح لكرامتي بأن تتهشم مرة أخرى بسؤالي لأي شخص.. وقفت على حافة العلم، ونظرت لكل ما أعرفه، ووجدته ناقصاً.. 

في مكتبة دار المعارف بالأسكندرية، دخلت، ومباشرة، ذهبت إلى المسئول لأسأله السؤال الذي ادخرته بفخر للحظة مناسبة، وجمعت كل ما يمكن جمعه من أموال لتتويجه، سألته: "لو سمحت حضرتك، عندك كتاب الأستاذ حسن الأسمر؟".. الرجل نظر لي وقال لي غير قادر على الفهم:" نعم؟".. كررت بثبات:"كتاب الأستاذ حسن الأسمر.." الرجل هز رأسه تحسراً في الغالب على حال الأطفال قليلي التربية، وقال لي وهو يشيح بوجهه عنّي: "يلّا يا بني من هنا.." لم أفهم ما يحدث فسألته:" أنا معايا فلوس والله، وهشتري الكتاب".. بدا في صوت الرجل نفاذ الصبر وهو يقول :" يلّا يا بني من هنا بدل ما أضربك".. لم أفهم ما الذي يحدث بالظبط، فكرت أن الكتاب مهم لدرجة أنه لا يصلح لطفل.. خرجت من المكان مكسور الجناح، بعدها توقفت عن البحث.

انتهت المأساة الأغريقية بعدها بأربع سنوات، جالساً بهدوء اقرأ كتاباً ما ليوسف السباعي، الذي بدا مناسباً جداً لمرحلة المراهقة بمسدساتها وخيولها، وفتياتها المبهورات بالأبطال، والراقصات المغرمين بالشباب الوطني المتحمس، كنت اقرأ تاركاً التلفزيون كخلفية لطيفة،  برنامج السهرة في الغالب على القناة الثانية، حين قالت المذيعة، أننا الآن على موعد مع حسن الأسمر، وكتاب حياتي.. وأنا وقع قلبي في قدمي، لم تقل أنّها أغنية حتى، بخل العالم عليّ بهذه التحية الأخيرة، قالت أننا على موعد مع حسن الأسمر، وكتاب حياتي، هكذا بالظبط، تساءلت حتى عن السبب الذي يدعوهم لوضع برنامج الأستاذ حسن الأسمر، وسط برنامج هلس كهذا.. رفعت رأسي ببطء، وأنا أحس بثقل كل عضلة في رقبتي، إلى التلفزيون، الذي أظلم للحظات، ثم بدأ يعرض الأغنية التي سأشاهدها لأول مرة في حياتي. أهم أغنية شاهدتها في حياتي.. 



الجمعة، 23 سبتمبر 2011

طعم الماء



كل يومين ثلاثة، غالباً بعد منتصف الليل، وفي الوقت الذي أفعل فيه الأشياء الطبيعية التي يفعلها البشر بعد منتصف الليل، اقرأ مثلاً، أشاهد فيلماً ما، أذاكر شيئاً في كتاب يفترض أن أذاكر فيه، أو حتّى أحدّق في السقف، هوايتي الأصيلة، يحدث أن أشعر فجأة بعطش حارق، "فجأة" أعني بها: على حين غِرّة، على غفلة، دون اشارات مسبقة.

تقول الكتب أن الناس يشعرون بالعطش على مراحل، لا يشعر الإنسان أنه يريد أن يشرب لتراً من الماء إلا لو كان في صحراء الربع الخالي مثلاً، لكن الشعور بالعطش، غالباً ما يأتي على مراحل، تدريجياً، الرغبة في التبول كذلك. 
يعرف الجسم أنه يريد الشرب عبر عملية معقدة، فيها خرف كثير عن الهرمونات ومنسوب الضغط الأسموزي وخلافه، بالتدريج ينبّه الجسم صاحبه أن هناك نقصاً في الماء، بالتدريج وبشكل متصاعد، ثم  يصل في النهاية للاحتجاج، العطش.

أنا لا أشعر بأي من هذا، فقط أعرف شعوراً واحداً وهو العطش لاغير، أمضي أياماً بلا شرب ماءٍ، و فجأة أشعر بأنني أختنق.. الشوك في حلقي يضغط بلا هوادة على الجوانب، مجرد الكلام يصبح أمراً غير قابل للفهم. وعيني تحرقني بشكل غير مفهوم، في المرّات التي يحدث لي هذا، وأكون في المحاضرة أو أي مكان آخر يفترض أن استأذن قبل تركه، تكون المأساة، لأنني لا أفعل.. أقوم فعلاً من مكاني، وأخرج من الباب بكل هدوء، محاولاً الحفاظ على الجزء الباقي من كرامتي، وأجري بعدها بحثاً عن الماء لأشربه.. الماء وليس شيئاً آخر لا يروي، المشروبات الغازية تجعلني أكره حياتي في هذه اللحظات. كل هذه الفقاقيع والسكر والأحماض.

لكن الجيد في الأمر، ما يجعلني لا أكره ما يحدث هذا تماماً، أننيغالباً الوحيد على ظهر الكوكب، الذي يعرف جيداً أن للماء طعماً، أن له رائحة جميلة كذلك، لا يشعر بها إلا العطشان، طعمه يملأ فمي في هذه اللحظات التي أشربه فيها وأنا أكاد أموت من العطش.. بعد أن أشرب لأول مرة، ويغمر الماء حلقي، أنتظر قليلاً ثم أشرب ثانية، لا يمكن للنشوة أن تحصل على تعريف أدق. أشعر أنني سعيد. في هذه اللحظات، أملك الدنيا بحذافيرها.

الجمعة، 16 سبتمبر 2011

لا أحد يقرأ موبي ديك

أريد فقط صباح الجمعة.. قبل الصلاة، في التاسعة صباحاً مثلاً، وقت اللهاث للحاق بالمواعيد الرسمية، يكون العالم خاملاً، هادئاً، كسولاً كقطٍ يلعق فراءه تحت الشمس.. 
في هذا الوقت تحديداً، كل شيء يصبح ممكناً.. لكن يوم السبت.. غداً سأحل كل المشاكل، واحل مشاكل أصدقائي أيضاَ لو تبقى وقت، ساتغلب على كل ما يعيق طريقي، وأذاكر، أشاهد الأفلام المهمة التي أريد مشاهدتها، واقرأ الكتب الضخمة التي ترقد في المكتبة يعلوها التراب، سأقرا موبي ديك، حتى لو كان كتاباً مملاً، سأنهيه في يومين. سأصير شخصاً أفضل، يوم السبت إن شاء الله..
أريد فقط فرصة للبدء من جديد، فما بين يديّ الآن، خَرِبٌ تماماً ولا جدوى منه.

الخميس، 15 سبتمبر 2011

اليد اليمنى، والقدم اليسرى


في الرابعة فجراً، اليوم، كنت جالساً على حافة النافذة، أشرب كوب قهوة سكّرها زائد، ومعها سيجارة أحاول قدر الإمكان ألا أنهيها بسرعة، لأنها الوحيدة.. نجحت مؤخراً في تقليص العدد، واصبحت اكتفي بواحدةٍ ادخنها باستمتاع شديد، وقلق بالغ من انتهاءها.. نافذة البيت في الطابق السادس، قدمي اليمنى داخل البيت، واليسرى معلقة في الفراغ.. كل فترة، غالباً مع كل نفضةٍ للرماد، انظر إلى الشارع، واذكر نفسي بالجملة ذاتها: المسافة بين قدمي اليسرى، وبين أسفلت الشارع كبيرة جداً. مع الاعتياد، توقفت عن الخوف، اصبح الأمر لطيفاً حتى، تحولت قدمي اليسرى بمثابة مزحة غير مفهومة إلا لي، الشيء الوحيد من جسدي الذي يقترب من الأرض ، الأرض يعني أسفلت الشارع، يعني الأرض الحقيقية، لا أرض البيت الأسمنتية البائسة.
 منذ ساعة تقريباً، كنت اقرأ في مجلة علمية ما، عن السيدة العجوز التي قامت بانشاء المحمية الأولى من نوعها لإنقاذ صغار الفيلة التي تعرض ذووها للصيد، بهدف الحصول على لحمهم، أو العاج، أو تعرضت هي نفسها للاعتداء لأن هناك بعض المهووسين أولاد الحرام يعتقدون في قدرات خارقة للحوم الفيلة حديثة الولادة..
كانت العجوز تحكي عن انثى الفيل الصغيرة : "عايشة".. التي انقذتها من الموت، ثم رعتها لعدة شهور، واضطرت لتركها لحضورحفل زفاف ابنتها.. ماتت "عايشة".. تحكي السيدة بمرارة، لأنها تعلقت كثيراً بها.. تحولت إلى الأم الثانية، وحين تركتها، ماتت من الحزن. عادت بعد شهرين لتجد الصغيرة قد ماتت. تقول بمرارة: " لا يجب أن يتعلق أحد بشيء ما لهذه الدرجة". قرأت الجملة، ودمعت عيناي.
تذكرت الجملة وأنا في منتصف السيجارة، وانتبهت حين لسعت أصابعي. افلتّها وشاهدت سقوطها الحر بحسرة حتى ارتطمت بالأرض.. الاتفاق اتفاق.. سيجارة واحدة في اليوم.
حاولت الانتحار وأنا ابلغ من العمر خمسة عشر عاماً.. لا استطيع تحديد ما اذا كانت محاولة جادة، أم مجرد تصريف هرمونات زائدة. لكني اتذكر شعوري واقفاً على قدميّ على ارتفاع 7 طوابق، ومصمماً على التنفيذ، حين خطرت ببالي أكثر الافكار بديهية في الدنيا، أنني لن أكون موجوداً لأعرف بالظبط ما الذي يشعر به المنتحر.. كان هذا مفزعاً. لم استطع فهم كيف يكون الشخص غير موجود. وكيف يكون غير موجود بارادته الحرة، هذا سخيف بشكل لا يصدق. لهذا قررت العدول، وفي طريقي للنزول، اختلت قدماي، وامسكت بالعمود الذي على يميني بكل قوتي، لدرجة أنني بعد أن تمالك انفاسي كنت غير قادر على اجبار يدي اليمنى على تركه. كانت لها ارادتها المستقلة وقررت التصرف بمعزل عن المعتوة الذي سيذهب بهم إلى داهية. ظللت هكذا وقتاً لا اذكره، حتى قررت يدي اليمنى أن تخفف قبضتها أخيراً. 
قررت أن الاتفاق لا يسري على نصف السيجارة، الاتفاق كان واحدة كاملة، نزلت بحذر، وشعرت بالبهجة حين لامست قدماي الأرض بسلام، ذهبت إلى المكتب، اشعلت سيجارة أخرى، وصارحت نفسي أنني خائف. 

الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

عبر البحر، وإلى الشاطيء الآخر


كنت أكتب في مدونة أخرى منذ حوالي ست سنوات، وجدت حتى صعوبة في تذكر اسمها منذ قليل، لكن ما اذكره جيداً كان العاطفية المفرطة والواضحة في نفس الوقت في كل ما أكتبه..
قبل هذه الأيام المجيدة، وكمراهق عبيط، كسرت قلب فتاةٍ تصغرني بعام، النظرة المتفهمة لما حدث، تقول أن هذا لم يكن متعمّداً، لكن أشياء كهذه تحدث.. كما يحدث أن تسقط شرفة سليمة تماماً على مارٍ عابر بريء في شارع ما، فيموت. سواء أحببنا هذا أم كرهناه، أشياء كهذه تحدث طيلة الوقت. لا يجب على صاحب العمارة أن يشعر بالذنب تجاه الميت، سليم.. قل هذا لصاحب العمارة وهو يتأمل الجثة أمامه.
لم أتفهم هذا.. لم أستطع نزع فكرة أنني شخص دنيء من رأسي.. كنت أشعر بالذنب، بأن الله خلقني ليعذب بي عباده الطيبين، البؤساء، أنني الاختبار الذي يضعهم أمامه، وأنني الشرير الذي لم ينقذهم منه، ووضعهم في تجربة مباشرة معه.
لم تكن المدونة القديمة هذه وسيلة لأي شيء، سوى تنفيس غاضب عمّا يحدث لي طيلة اليوم، أخرج من الكلية، لأدخل إلى السايبر الذي يتوسط المسافة إلى البيت، وأكتب كلاماً يبدو لي لا بأس به، عن الكلية، عمّا أفعله هناك، عن الموسيقى التي تعجبني، والأفلام التى شاهدتها، عن الكتب، أكتب كلاماً أحاول فيه أن أقترب من الأدب كما أتصوره، صورة نجيب محفوظ الشهيرة تلح على خيالي، مبتسماً بفتور، ابسامته الأليفة تلك، ممسكاً بعصاه، والنظّارة الطبية تحجب نصف وجهه.
لم احتمل الشعور بالذنب، كان هاجساً مستمراً، بأنني دمّرت حياة انسان بشكل لا يقبل الاصلاح.. هذا الكلام الذي أعرف أنه خرف كبير الآن.. الآن للأسف وليس وقتها.. منذ كنت طفلاً وانا أتمنى أن تكون لديّ القدرة على معرفة ما سيكون. الغيب سيظل هو الهاجس الأهم بالنسبة لي. المهم أنني وكوسيلة للتخلص من هذا العبء، قررت أن أكتب في تدوينة ما نصّه أنني أعتذر.. وأنني أعرف إن امكانية قراءتها لهذا الكلام صفر كبير، لكنني على كل حالٍ، آسف، والله آسف.. كان هذا استدعاءاً للعبة القديمة كنت ألعبها مع أولاد عمتي على بحر اسكندرية، يكتب كلّ منا رسالة ما، ويضعها في زجاجة مياة غازية مسدودة بقطعة فلّين ويلقيها في البحر.. وباعتباري صاحب نظرة مبعدية، كنت أكتب ثلاث نسخ، على ثلاث ورقات، كل واحدة منها بلغة، العربية والانجليزية والايطالية التي يجيدها زوج عمّتي، والذي كنت انظر له باعتباره ساحراً..على اعتبار أن احتمال وصول الرسالة لإيطاليا ليس بعيداً جداً..
كانت في بلد أخرى في هذه الفترة، وكنت في مصر، وكانت كل المراسلات بيننا قد انقطعت، ولا يوجد بيننا أصدقاء مشتركون، ولم أكن أكتب بأسمي الحقيقي أصلاً وقتها، ولم تكن هناك وسيلة اتصال واحدة ممكنة. ورغم ذلك، حدث أنها عثرت على المدونة بصدفة ما، دوناً عن قرابة بليون صفحة ذات محتويً عربي على الانترنت، قرأت نصوصاً تعرفها، كانت قد قرأتها قديماً، ثم قرأت الاعتذار الموجه لها. 
وأنا الذي وقت كبرت قليلاً، كنت اعتبر نفسي طفلاً سخيفاً، حين أتوقع أن الرسالة قد تعبر البحر المتوسط لتصل ليد إيطالية على الشاطيء الآخر ..


المتابعون