الجمعة، 24 يونيو 2011

1 + 1

تحيرني الآلية التي تعمل بها الذاكرة، وطريقة الانسان الاعتيادية في استعادة ما قد سبق حدوثه.. يخيل إلي أننا في أغلب الأحيان نتذكر أشياءً لا علاقة بها بأي حال، من قريب أو بعيد، بما حدث فعلاً على أرض الواقع.. الذاكرة وحدها تقرر ما اسعدها، واحزنها، أثار حنينها، أو سخطها، أو أي شعور آخر يمكن وصفه أو يستعصي..

المشكلة أن الانغماس في هذه الفكرة يحيل المرء إلى دوامة من دوامات أفلاطون الشهيرة، البلهاء كذلك: هل ما يحدث في هذا العالم يحدث فعلاً؟.. أم أن كل شيء هو مجرد انعكاس لما يحدث يحدث "فعلاً" في عالم مثالي تماماً قوامه الهندسة والرياضيات.. عالم مثالي لأنه المكان الوحيد الذي يكون فيه كل شيء واضحاً كما ينبغي له أن يكون.. واحد مضافاً إليه واحد لن يكون ثلاثة أبداً، حتى لو كان هذا جميلا.. وبتطبيق نظرية الحساب هذه على كل شيء، فكل شيء كان يوماً (واحد زائد واحد يساوي اثنين) وتحول على ظهر العالم "الواقعي" إلى (ثلاثة) وهذا شيء، حتى لو لم يكن حقيقياً، جميل .

كل هذا الخرف فقط لأقول أنني استعيد الأيام التي قرأت فيها كتاب (رحلتي الفكرية) للمسيري، فأشعر بدهشة حقيقة. بشكل عام، أغلب الكتب التي اعتبرتها مهمة، كانت لسبب ما تقع في يدي في الوقت الذي أكون فيه مشغولاً بعمل عقدة المشنقة استعداداً للانتحار.. يمكن اعتبار هذا قاعدة عامة. لكن أيام المسيري كانت تناسب حجم كتابه، فلنمض في التشبية لآخره، كنت إذا قد وضعت رقبتي في العقدة، وصعدت على الكرسي، مستعداً للقفزة الأخيرة، حين وقع الكتاب في يدي، قرأت مقدمه الكتاب لأقرر أنني سأقرأه، في الوقت الذي كان وجود نجيب محفوظ نفسه كقاريء لكتبه أمامي، أمر غير مبهر، وغير محفّز.. 

كيف يمكن لهذا أن يكون ذكريات سعيدة؟ كيف يمكن لي أن أستعيده وأبتسم تحية للأيام، فلنتجاوز الكلام الغريب من نوعية نشوة المعرفة والسعادة بها، لأن المرء يمكن أن يعرف وهو سعيد. 

استيقظ في الثالثة فجراً، لا حاجة لارتداء ملابس خروج، لأنها ملابس نوم كذلك، اتأكد أن مفتاح البيت معي، حتى لا أبيت في الشارع، وأن معي أموالاً تكفي لوجبة سريعة، وحيدة طول اليوم، وأخرج والناس في البيوت نيام، اتجول قليلاً، آكل أي شيء، ثم أجلس في القهوة التي تبدأ يومها، متأملاً في الكون، وأعود للبيت لأجلس لقراءة الكتاب منذ الخامسة تقريباً وحتى يقضي الله أمراً.. أنهيت الكتاب في أسبوع، بالظبط وسط أيام الانقطاع التام عن البشر. كنت قد انهيت امتحانات السنة الثالثة بمعجزة ما، واغلقت بعد آخر امتحان هاتفي، ولم أخرج من بيتي لمدة شهر كامل. قبل وفاتها بفترة ، قالت جدتي أنني إما أن أجن تماماً وإما أن يلطف الله بي، ماتت هي قبل امتحان شفوي لمادة لا أذكرها، وانا دخلت على الممتحن ليسمعني اسوأ ما يمكن سماعه، ولأفكر أنا في نفسي وانا انقض عليه واخنقه، قبل أن يطردني، سألني إذا كنت مكسوفاً من نفسي بخصوص هذه الخيبة الثقيلة، في الحقيقة لم أكن.. بشكل أوضح كنت تقريباً أعرف كل اجابات اسئلته، في ظاهرة كونية لم تحدث من قبل ولا من بعد، لكنني لم أستطع اجبار لساني على قول كلمة.. هززت رأسي بإيماءة لا معنى لها، وخرجت.. كنت وسط أيام كريهة، وجاءت وفاتها لتجعل الأمر غريباً فعلاً.. ليس حزناً حتى لأنه لا معنى له.. 

بعد أن انتهيت من الكتاب، اغلقته، وضعته على الرف بجواري، ذهبت للمطبخ وعملت لنفسي كوباً جديداً من الشاي، وعدت لأفتح أول صفحة من جديد.. لأنهيه هذه المرة في شهر. 
استعيد هذا، وأحاول رؤية الموضوع من زاوية تفسر سبب هذه السعادة التي اشعر بها، والابتسامة على وجهي، فلا أفلح. وأعرف أني عاجز عن ادراك كيف أصبحت الأمور إلى ما آلت إليه.. 

لكنني أضحك بصفاء حين أتذكر وقوفي على قدميّ من جديد، واستعادة عافيتي دون مساعدة أحد، واللكمة التي أرسلتها في الهواء إلى فك أحدهم حين قال في حديث عابر لم أكن مشاركاً فيه أصلاً أن المسيري ضعيف فكرياً.. الآن لا ألكم أحداً، أصبحت أقل عدوانية نوعاً ما، وإن كنت لا أزال أتخيل فعل هذا في عالم أفلاطون الهندسي. 

هناك 4 تعليقات:

shady يقول...

حكيك يولد المزيد من الحكي :)
بدأت نفس الكتاب في فترة شبيهة، بس كانت امتحانات خامسة بتودع ووفاة عمي، وأسبوع كذلك بقرا فيه شوية وأنام شوية بالتبادل، كتاب دسم محتاج وقت عشان أقراه، ويمكن من اوائل الكتب اللي أقدر أقول إنها مش (غيرت تفكيري) .. لا .. (علمتني أفكر) جملة أدق بكتير، غير إن الكتاب لأول مرة (يبدو عميقا وممتعا) في نفس ذات اللحظة، لا .. واسمه كمان يصلح للمنظرة أحيانا، بخلاف إني كنت بدأت أكون أسطورتي الخاصة في حظي مع الكتب فجبته ب10 جنيه من سور الأزبكية في معجزة ما .. ولما إني بحب الكتاب جدا، فوارد إني يوما ما لما أبقا من القطط السمان هشتري نسخة تانية طبعة الشروق وهتكون وقتها غالبا وصلت 1000 جنيه.
دلوقت عايش فترة شبيهة.. أي نعم مفيش _والحمد لله_ خبر وفاة ما، بس قافل عليا الأوضة وبقرأ يوميا كتاب واحد جديد على الأقل، وكتاب من اللي يقال إنهم مميزين، يوم زي النهارده قريت فيه كتابين : كتاب الغواية لعزت القمحاوي، ومصر بين العصيان والتفكك لطارق البشري، وكمان جرؤت أخيرا إني أبدأ في رواية ضخمة زي كافكا على الشاطئ وأوصل ل60 صفحة فيها قبل ما انام، متعة استكشاف هذا الجمال اللي مكنتش أعرفه، والجرح إني مكنتش أعرفه، وغالبا في غيره هموت من غير ما أعرفه، كل دا بيحمسني جدا في القراءة، افتكرت تعليق عزت القمحاوي عن بورخيس .. اللي كان نفسه لو مات ودخل الفردوس، يكون الفردوس مكتبة كبيرة، وعرفت ليه بحب الراجل دا رغم جفاف ما في كتابته ..

تصبح على خير يا ريس:)

Rana يقول...

أنا بقرا الكتاب في ظروف مختلفة

لكن تظل لقراءته طقوس خاصة، ويمكن حجم الكتاب يسهم في هذه الطقوس، كتاب مستحيل تقراه وانت مستلقي على السرير مثلا لأنه ممكن يقع عليك، ومش هينفع (تسرح) بيه في كل مكان زي الكتب الصغيرة اللي تتنيها وتفردها وتحطها في الشنطة-في حالتي- ده غير إن صعب حد يشوفه من غير ما تقعد تشرح له مين المسيري، الحاجة اللي تخنق بشدة.

أقرأ فيه هذه الأيام بمعدل يومي ثابت تقريبا، حاسة إنه لما يخلص هزعل شأن الكتب اللي بتعيد تشكيل الوعي.

بيعمل رؤية مغايرة للعالم، نبهني لإمكانية تضافر الرؤية الكلية مع التقاط التفاصيل، حاجة كنت فاكراها غير ممكنة. نبهني لقصور في فهم الحياة عندي وعند ناس تانيين.
ولو إنه دخلني في معضلة تانية، إذا كنا سنلتمس العذر ونتفهم كل شيء في دوافع الإنسان و مسيرة الحياة، كيف سنغضب.. نحن نحتاج الغضب، صح؟

ثم إن نَصّك حلو :)

Mist يقول...

عجبتني التدوينة..فكرتني بأشياء متشابكة..
ذاكرتي البصرية كثيرًا ما ترسل لي صورًا وامضة لكل ما يرتبط بشيء أعجبني..لذلك التعليق صعب..

الكتاب قرأت بالفعل منه 50 صفحة مثلاً..وأنا أحب المسيري على ندرة ما قرأت له..لذلك فرفقته مبهجة أيًا كان الوضع..مثله كبورخيس أو فوينتس أو باموك أو بيجوفتش أو هوفمان أو هسه عندي..ناس معينة مخصوصة
أضف أنني في مود الرغبة في الانعزال..وهذا يعني التفلت من كل ما يمكن حتى أصل بالجفاف لتقليل أي أي تواصل انساني..حينها لا يمكن إلا للخاصة من الكُتاب مرافقتي..

ثم إن كثيرًا من الكتب المهمة في حياتي قرأتها في وقت طواريء ما..مثلا ماركيز قرأته في الايام التي تسبق امتحان العضوية في السنة الثانية من الكلية وكان منهج رخم فعلا فعلا..وهكذا

موضوع الذاكرة ..أشاركك الحيرة
وأتابع فيه ما أمكنني من وجهات النظر علني أفهم..أنا ذاتي أراقب عمل ذاكرتي وأتعجب..لا يلتصق في رأسي أي تواريخ مهمة تقريبا إلا فيما ندر..وأفاجيء أنني أرتب الأحداث كل مرة بشكل مختلف ربما حسب ترتيب أهمية أو الاحساس باللحظة..

أما دوامات أفلاطون..فالأمر يتوسع معي حتى يلمس مقولة تسو: "لا أعرف إن كنت فراشة تحلم أنها فراشة..أم فراشة تحلم أنها رجلاً"..
وكما تتعجب من شعورك بالسعادة عند استعادتك الحدث الذي لم يكن يحمل هذا الشعور..فلربما أتعجب من الأمر لأنه يشبه طريقة عمل المنامات أو الأحلام
..
كل لحظة تضيف لونًا أو رائحة أو حتى تفصيلة تتفاوت في تثقيل الحدث أو تخفيفه أو صبغه بصبغة ما تختلف قليلاً أو كثيرًا عن الحدث الأصلي

Sumaya Rabie يقول...

يبدو أن الجميع هنا لديه قصّة يحكيها عن المسيري، ما عدا أنا
أنا ما قريتشي الكتاب، وبالتالي كنتيجة منطقية، ما بعيدشي قراءته ..

بس عندي حكاية برده،
الكتاب ده بالنسبة لي من الحاجات اللي هي بتومضلك من بعيد كده .. فيه حاجات طول الوقت بتبقى بتنور رغم انك فعليا مش ماسكها ..
ما أظنش هقراه قريب، مش لسبب غير انّي شخص بيؤمن بالتهيئة النفسية والعقلية للبداية في حاجات معينة ..
تقدر عليّا سام هاو معقدة نفسيا..
--
حاجة جميلة في البوست: عذب .. وفيه تفاصيل جميلة ..
حاجة جميلة في الكتابة: سلسة ومريحة ..
حاجة جميلة في التعليقات: بسيطة ومش متكلفة ..
---
عشرة جنيه يا شادي؟ مش كتير شوية؟

المتابعون