السبت، 1 مايو 2010

الريشة الخضراء


حدث هذا منذ زمن طويل .. أختي الصغرى ليلاً تهزني بقوة لا تتناسب مع حجمها الصغير ، ومع سنّها الأصغر ، لتقول في فزع : اصح بسرعة ..
لم أصح بسرعة .. استغرقت وقتاً لكي أعرف أين أنا ، ولكي أستعيد وعيي الذي يسمح لي بإدراك أننا قد تجاوزنا منتصف الليل بأربع ساعات ، وأنني الآن في سريري ، وأنها الآن تقف بجواري تبكي ..
لا نأخذ الأطفال بجدية ، هذه جملة تقليدية نبرر بها كل شيء .. لكن لنا عذر .. من يمكن أن يصدق ما تقوله وهي تبكي : في عفريت في أوضتي ..
نقول غالباً ما لا نعنيه ، نستخدم قدراتنا كبشر لهم وعي وخيال ، في خلق ما لا يوجد .. العفريت .. هذه كلمة نقولها كلما أعيتنا الحيل في فهم ما يحدث حولنا ، نحيل ما يحدث على كائن غير موجود من الأصل ، وعينا بما يحدث حولنا أمر له عيوبه ، وعيوبه أن ما لا نفهمه ، نسميه بشيء مما لا نراه ، مما يتجاوز وعينا .
عفريت ؟ .. تساءلت وأنا نصف نائم ، نصف معتدل على سريري . وهي قالت بذعر : عفريت .. عفريت ..
كانت قد أبتعدت بعض الشيء ، مفسحة لي المجال لكي أقوم من مكاني مكتشفاً هذا العفريت . لكنني كنت أود النوم بشدة ، ولم أكن قد أويت إلى السرير أصلاً إلا من ساعة تقريباً ، وكانت هي نائمة في سبات ، قبل أن أفعل أنا بفترة طويلة .. لهذا لم أقم من مكاني وأنا أقول : عفريت إيه بس اللي هيطلع دلوقتي ؟!
تبدو الجملة متناقضة بشدة ، التساؤل لم يكن مثلاً : عفريت إيه ؟ .. مفيش حاجة إسمها عفريت .. ولم يكن جملة تقريرية : مفيش حاجة أصلاً إسمها عفريت .. بل كانت على العكس تماماً ، تساؤل عن السبب الذي يدفع العفريت للظهور في هذا الوقت المتأخر .. وهو الشيء الذي بقليل من التفكير يمكن تفسيره ، العفاريت لا يمكنها أن تظهر العصر مثلاً .. العفاريت تظهر غالباً بعد منتصف الليل ، وفترة الأربع ساعات هذه ، تسمح للعفريت بمزد من الغموض .
كنت أريد النوم بشدة ، وهي جملة نستخدمها في تبرير كل شيء .. أبتسمت بأبوة وأنا أقول لها أن تستهدى بالله ، وتدخل تنام ..
وهي فقدت أعصابها وهي تبكي قائلة أنني لا أصدقها ، وأن لا أحد في هذا البيت يأخذها بجدية .. وأنفجرت ملقية مزيداً من الدموع ، قائلة أن العفريت يرتدي طاقية حمراء ، وبذلة سوداء ، وأنه ينظر واقف عند الباب ينظر بشر . ثم صارخة : " في عفريت في أوضتي "
حاولت أن أذكرها بجملة وودي في حكاية لعبة : " في تعبان في جزمتي " .. تحب هي هذا الفيلم ، وتبكي مثلما فعلت كلما سقط باز الذي لا يطير ، عند محاولته للطيران ، مهشماً . ليكتشف بعدها أنه لعبة لا تطير .. ولكنها بمجرد ما سمعتني وأنا أقولها نصف نائم حتى صرخت من جديد : أنت بتتريق عليا .. ثم المزيد والمزيد من البكاء .
قمت من مكاني ، محاولاً ألا أقع ، ربت عليها قائلاً لها ألا تخاف ، معيداً عليها ما قلته : مفيش حاجة يا ماما إسمها عفريت أساساً .. الحاجات دي بتاعه الصغيرين، أنت كبيرة ..
وهي هزت رأسها ، بشدة : والله موجود .. لابس طاقية حمرا وبدلة سودا .. ومليش دعوة صغيرين ولا كبار .. أنا شايفاه .
قلت لها أن تهدأ .. أمسكت بيدها ، وخرجنا من غرفتي إلى المطبخ .. صببت الماء في كوب بلاستيكي ، لأننا في مرحلة تعليمها ألا تشرب من الزجاجة مباشرة ، رغم أننا جميعاً نفعل ذلك . لم تشرب إلا جرعة بسيطة ، شربت أنا الباقي ، وحملتها إلى الحوض الذي كانت بقايا عشاء أمس مستقرة فيه ، غسلت لها وجهها ، هدأت قليلاً ..
خرجنا من المطبخ ، توجهت إلى غرفتها ، و أنا ألعن الحس التربوي المفاجئ الذي ظهر من العدم ليقرر أن عليها أن تتعلم النوم وحدها .. طوال الطريق كانت ممسكة بيدي ، ولكنها كانت مائلة بها بحيث تستقر خلفي ، أشعلت النور ، وبدت الغرفة كأي واحدة أخرى خالية من العفاريت .. نظرت لها ، وهي تنظر لزاوية الحجرة اليمنى حيث يستقر مكتب تستذكر فيه دروسها ، وحدها طبعاً ، فهذه مرحلة الاعتماد على النفس .. نظرت لما تنظر له ، وقلت : شفتي ؟ مفيش عفاريت ..
بدا ما أقوله وكأنه سخف لأنها تخلت عن يدي لتقف أمامي وتقول : ما هو مش هيبان قدامك .. لكن لما تنام ، هيرجع تاني .
حملتها ناحية السرير .. وضعتها فيه ، وقلت لها العفريت خاف مني ، وأنها يمكن أن تكمل نومها الآن ، نظرت لي بشك ، ثم طلبت مني أن أنام بجوارها تحسباً لظهور آخر للعفريت ، قلت لها أن العفاريت لا تظهر مرتين لنفس الشخص ، عقدت حاجبيها وتساءلت إن كان كنت أقول هذا الكلام فقط لجعلها تنام ، تظاهرت بالدهشة ، سألتها هل كذبت عليها من قبل ؟ .. قالت أنني فعلت حين وعدتها باصطحابها للسينما ولم أفعل .. فكرت في أنني فعلت هذا لأن أفلام عادل أمام غالباً ليست مناسبة لطفلة ، وقلت لها أنني سآخذها لفيلم آخر ليس فيه عادل أمام .. فكرت قليلاً ، ثم قالت لي أنها تحب عادل أمام .. قلت لها أن واحداً من أصدقائي دخل الفيلم بالفعل ، وأخبرني أنه غير مضحك على الإطلاق .. قالت أن صاحبي لا يفهم .. قلت لها أنه حمار بالفعل وضحكت ، فضحكتْ .. قلت لها أنني سآخذها لفيلم آخر لا تتوقف فيه عن الضحك من أوله لآخره . هزت رأسها موافقة. قلت لها أنني سأتركها الآن لتنام . وعندما كدت أطفأ النور ، قالت لي أن أتركه مضاء على الأقل ، فكرت في الأمر قليلاً ، ثم قررت ألا أفعل . وعدت للنوم .
مرت الأيام ، وهي الجملة الرائعة التي نبرر بها أن هناك كثيراً جداً مما حدث ، وأنه بلا أهمية ، كبرت أختي ، وهي غير قادرة على النوم في غرفة غير مضاء نورها ، ثم تركت البيت ، وتركته أنا أيضاً ، وأصبح موضوع النور المضاء ، أمراً شديد الأهمية في محاوراتنا الساخرة ،
قد يبدو من المناسب أن ينتهي الأمر هنا ، حيث يعم الأمن أرجاء المعمورة ، وينام الناس أغلبهم في العتمة ، , وتنتمي أختي لقائمة أخرى من البشر ينامون في النور ، لكن لم يحدث الأمر بهذا الشكل .
ابن أختي الصغرى ليلاً يهزني بقوة لا تتناسب مع حجمه الصغير ، ومع سنّه الأصغر ، ليقول في فزع : اصح بسرعة ..
لم أصح بسرعة .. استغرقت وقتاً لكي أعرف أين أنا ، ولكي أستعيد وعيي الذي يسمح لي بإدراك أننا قد تجاوزنا منتصف الليل بأربع ساعات ، وأنني الآن في سريري ، وأنه الآن يقف بجواري يبكي ..
لا نأخذ الأطفال بجدية ، هذه جملة تقليدية نبرر بها كل شيء .. لكن لنا عذر .. من يمكن أن يصدق ما يقوله وهو يبكي : في عفريت في أوضتي ..
هذه المرة كنت نائماً منذ فترة طويلة ، ابتسمت في داخلي ، وأنا أتساءل عن لعبة الجينات ، وقلت له : لابس طاقية حمرا وبدلة سودا طبعاً .. وهو صرخ باكياً : أنت عارفه منين ؟ ..
نظرت له في ذهول ، كانت أختي قد تركته في البيت لأنها مسافرة ليومين ، وجعلته ينام في نفس الحجرة التي كانت تنام فيها ، والتي لم يتغير فيها شيء ، حتى صور المطربين ، ودفاترها القديمة ..
سألته : أنت متأكد أنه لابس طاقية حمرا .. وهو قال لي غارقاً في دموعه : وعليها ريشة خضرا ..
لم أشعر به وهو يتسلل بجواري ، ويضع على جسمه اللحاف ، ويقول لي : هتروح تشوفه ؟ .. لم أعرف ماذا يمكن فعله ، ولكنني قررت أن أضع اللحاف على رأسه ، ورأسي ، وعندما سالني : خالو .. انت خايف من العفريت ، قلت له أنني سأموت من الخوف . ربت على كتفي ، وقال لي : ماما قالت لي مفيش حاجة إسمها عفاريت .. متخافش .. نظرت له وحاولت أن أبتسم .

هناك 8 تعليقات:

جيرالدين يقول...

حلو أوي الخوف الجيني ده !

شد حيلك

إيمان يقول...

لذيذة وخفيفة وجميله اوي
وخلتني اضحك ضحكه صافيه:)

Rana يقول...

أيوة كدة يا وديع...نياهاهاه

names يقول...

لاء جاااااااامده والله

غير معرف يقول...

:))) هي حالة معتادة عند الاطفال -أنا لحد اللحظة أختي الصغيرة الي عمرها 12 سنة بتصحى بنص الليل بتبكي من اشيا غير مفهومة وعفاريت مجهولة و مدري شو وترفض النوم والشباك مفتوح حتى في عز الحر لأن العفريت بيدخل من الشباك !!!!
><
تدوينة لطيفة جدا
^^

غير معرف يقول...

That put a wide smile on my face :) Just lovely :)

ست الحسن يقول...

إيه الجمال ده
مكنتش أعرف إنك بتكتب حلو أوي كدة يا أحمد
:))

Ghaida Abu Kheiran يقول...

ابتسامة طويلة مطوّلة :)))

المتابعون