السبت، 24 أبريل 2010

بخصوص ما يحدث


لابد في البداية من توضيح أنه لم يكن شاباً طرياً ، أو هكذا كان يرى نفسه .. بالطبع لا يمكن الاعتماد على وجهة نظر الشخص في نفسه ، لكن للأسف ليس هناك مجال آخر لجمع عشرين شخصاً بشكل عشوائي ، وعرض فترة كافية من حياة هذا الإنسان عليهم . ليقرروا إن كان هذا الشاب ، طرياً أم لا .. لهذا سيكون كافياً ، أن يتم التنويه في البداية أن هذا الشاب ، ليس طرياً ، لأنه لم يكن يرى نفسه كذلك .
ربما يستدعي هذا ، التساؤل إن كان خشناً ، وهي النقيض الواضح للطراوة . لكن هذا الشخص لم يفكر في هذه المسالة من قبل ، هو كان يكتفي بنفي أنه طري .

كان عائداً إلى بيته في أمان الله ، عندما لاحظ أن هذا الشارع هو نفس الشارع الذي قابلها فيه مرة حين كان يريد أن يقابلها .
أنت تعرف بالطبع هواجس العشاق تلك ، أن تمشي في شارع عادي مثلاً ، سنطلق عليه اسم (أ) افتراضاً ، ثم فجأة ، تشعر أنها تمشي الآن وحالاً في الشارع الموازي وهو ما سنختار له الاسم (ب) ، لهذا تستغل أي تخريمة ، لتدخل في الشارع (ب) ، ثم كفقاعة مكللة بالنور ، تظهر الفتاة ، هنا طبعاً سينفجر الإحساس ، أنكما لبعض ، وأن هذه إشارة كونية تقول لك بكل وضوح : أن ما حدث الآن لا يمكن أن يحدث بهذه البساطة ، لتحاول أنت التقاط أنفاسك ، وتبتسم تمهيداً لمحادثتها مبهوراً بما يحدث . وهو حقك بصراحة ، ما احتمالات حدوث هذا ؟ .. دوناً عن كل شوارع المدينة ، تقرر هي أن تمشي في شارع ، ستمشي أنت فيه بعد ثوان ، مع الأخذ في الاعتبار ، أن هناك هاجساً ما دفعك لتمشي فيه ، لأنك كنت تمشي في شارع آخر أصلاً .

لكل هذه الأسباب ، كان يمشي في الشارع (ب) خائفاً ..

لابد هنا من توضيح أنهما ليسا مع "بعض" الآن ، وهو ما يدفع المرء حقاً للتوقف لحظة عن ممارسة حياته اليومية ، والتساؤل بصوت مرتفع : " نعم ؟ .. خير يعني ؟! " ، لماذا تحدث هذه الأشياء اللطيفة ، حينما تقرر الأمور أن تمشي في سكة أخرى مختلفة تماماً .

هنا ، شعر أنه سيراها .. ولم يكن هذا محبباً إلى قلبه الآن . وتساءل إن كان يجب أن يختار أي تخريمة للمشي في الشارع (أ) الموازي ، وهو الشارع المحبب إلى قلبه الآن ، لأنه لا يحمل كل هذه الطاقة فوق الطبيعية لذكرى لقاء لإثنين لم يصبحا لـ" بعض " .

الحقيقة أنه لو كان يقرأ كثيراً ، لعرف أن هذه الأشياء بالذات ، تحدث كثيراً ، يعني أن تقرر ألا تمشي في شارع ، و أن تمشي في شارع آخر ، لتجد أن الشارع الآخر بالذات ، هو ما اختارته الأخت الفاضلة لكي تمشي فيه .. هذا يحدث كثيراً وبشكل غريب ، وهو ما يجعلك تعيد التساؤل بنبرة أحد هذه المرة : " نعم بجد ؟ .. خير ؟ " .. لكن للأسف هو لم يكن يقرأ كثيراً ، يعني كان يقرأ عادي يعني ، ولكنه لم يكن يقرأ ما يجب أن يقرأه ، وفي هذه الحالة ، كان يجب أن يقرأ رواية أو قصة ، أو حتى قصيدة _ وهي الشكل الأمثل لمناقشة مثل هذه المواضيع _ تتحدث عن فتى يقرر ألا يمشي في شارع ، ويختار شارعاً آخر ، ليجد فتاته قديماً أو الأخت الفاضلة حالياً تمشي في هذا الشارع بالذات . ربما كان سيعرف أن الأمر خطير فعلاً ، وأن اختياراته التي تكتسي بالعفوية ، لابد كذلك من إدراك أنها حسنة النية بشكل مبالغ فيه .

هذا ما حدث على كل حال ، أختار تخريمة ما ، جعلته الآن في الشارع (أ) الذي لا يحمل أي ذكرى سيئة ، حتى الآن طبعاً لأن كل البشر لو تم عرض هذا المشهد أمامهم ، سيعرفون أن طبائع الأمور تقول أنها الآن في بداية الشارع (أ) .

لم يشعر بشيء حين رآها ، ربما سيعود لبيته ، ويفكر أن الدنيا غريبة .. وأنه الآن لم يعد يشعر بأي شيء من أي نوع ناحيتها ، وأن هذا محزن نوعاً ما . ورأيي الشخصي ، أنه كذلك فعلاً.

لابد هنا من توضيح أنه قرر في البداية ألا ينظر لها ، يعني .. هو كان يكره هذه المواقف كما يفعل الجميع ، وكان يصاب دائماً بالحيرة من نوع الفعل الأمثل ، ولكنه مثل الجميع ، فعل ما قرر ألا يفعله ، ونظر لها في نفس الوقت الذي كانت تنظر له .
كانا يمشيان بسرعة واحدة تقريباً ، وهو أمر قد يمكن قوله بطريقة حالمة ، لكنه كان السبب في أنه رفع يده اليسرى بضع سنتيمترات ، كنوع من التحية للعيش والملح ، مع ابتسامة خفيفة ، رسمت هي نسخة منها على وجهها ، مع رفع يدها اليمنى بنفس الطريقة .

هو لم يكن شاباً طرياً .. أو لم يكن يعتبر نفسه كذلك ، وحتى الآن ، لم يسمح للأمر بالدخول عميقاً في داخله ، وكان تعامله مثالياً يوحي بقوة الشكيمة حقاً .. أصل يعني ، هذه الأشياء تحدث كل يوم ، ولا داعي لملء الدنياً صراخاً حزناً على الحب الضائع .
لكن السلام بهذا الشكل ، حز في نفسه .. و حز بشدة لدرجة أنه شعر بالشيء حاد الأطراف يتحرك بداخله في مختلف الاتجاهات .

مشي لبضع خطوات أخرى ، حتى وصل أول الشارع ..

لابد هنا من توضيح أن الحقيقة تختلف كثيراً عن المجاز.. ما يحدث في الحقيقة ، يحدث بجد ، يحدث بشكل لا يقبل اللبس ولا الاختلاف عليه . عندما وقف على أول الشارع ، وقف فعلاً هناك ، لم يتخيل أنه يقف ، ولم يشعر أنه يقف . نحن نقلل كثيراً من أهمية ما يحدث حقاً ، ونعطيه حجماً لا يليق بجلاله ، ولا بخشونته ، متأثرين ربما بالاعتياد ، والاعتياد بداية السخف كما هو مفهوم .
أما المجاز ، فهو أمر لا يمكن الإمساك به ، ولهذا فعليه يعتمد تراث أغان ممتدة من القرون الوسطى إلى الآن . أمر طري . عندما يقول أنه حزين ، فالجملة نفسها بلا معنى ، بلا أي مفهوم سوى عنده فقط . لهذا عندما شعر بأن هناك شيئاً يحز في نفسه ، وهو يرى الأمر الذي كان بينهما يتحول إلى تحية بلهاء ، شعر بالذعر ، وبدأ يشعر أنه طري فعلاً .

ربما لهذا السبب ، وهو واقف على أول الشارع ، سعل عدة مرات ، ثم بدأ يقيء دماً .

الثلاثاء، 20 أبريل 2010

هكذا تحدث عم أحمد


لم يكن الأمر شجاعة مفرطة مني ، لكن رأي عم أحمد كان عكس ذلك على ما يبدو ، لأنه نظر لي بإعجاب ثم أستكمل ما كان يفعله . بصراحة ، ليس الأمر أنني لا أخاف ، الأمر كان أنني جائع جداً ، والوقت قد تآخر ولابد من العودة قبل أن تبدأ أمي في القلق . لهذا فقد تجاهلت تماماً الخناقة الدائرة على بعد مترات مني ، وأستكملت الأكل .
لم ألحظ أن الخناقة دخلت فيها السكاكين السنج إلا عندما قطع عم أحمد ما يفعله وصرخ : نزل السنجة دي بقا وامشي من هنا يابن الو*** .. عندها فقط رفعت رأسي عما أنا منهمك فيه لأجد أن الشاب الممسك بالسنجة يصرخ : يعني عاجبك يا عم أحمد ياخد الأمانة ؟ ، ثم بدا وكأنه ملبوس بالكلمة حيث أخذ يكررها وهو يسحل الفتى الآخر الذي لاحظت الآن فقط أنه ملقى على الأرض : ياخد الأمانة يعني ؟ .. ياخد الأمانة ؟ .. ثم ناظراً للمسحول : ما تيجي تلبسني طرحة أحسن يا عـ** .. تحرك عم أحمد ، الذي بدأت أفهم أن له سلطة تتجاوز بائع الفول على عربة متهالكة ، و أمسك مغرفة الفول التي بدت كسلاح تافة ، ثم جرى ناحية الفتى وضربه بها على ظهره وهو يقول :
انت ملكش كبير يا حمادة يعني ؟ بقولك نزل البتاعة النجسة دي يبقا تسمع الكلام ..
حمادة سمع كلام عم أحمد وخفض السنجة ، وترك الفتى الذي بدا أنه فقد الوعي .. وبمجرد ما فعل هذا ، عاد عم أحمد للعربة ، وسألني دون مقدمات : شفت لما حمادة كبر لي ؟
وأنا قلت له أنني رأيته وحمادة بيكبر له ولكن بصراحة لم أتابع الخناقة لأنني كنت جائعاً جداً .. ولهذا السبب تحديداً لم أتحرك من مكاني ، في حين أن جميع الواقفين جواري تحركوا لمكان أكثر أمناً .
هز عم أحمد رأسه وقال لي : اتخانقت قبل كدا ؟ .. يعرف عم أحمد أنني طبيب في طور التكوين ، لهذا كان يعاملني معاملة خاصة ، مزيد من السلطة ، مزيد من الفول ، مزيد من الزيت ، ومزيد من المودة ، ورفض الاثنين جنية الذين أعطيهما له ، حيث يظل يقول بصوت عال نسبياً : خلاص يا دكتور .. علينا المرة دي بقا يا دكتور .. خلاص بقا والله .. رجل طيب .
قلت له أنني تشاجرت كثيراً في الواقع ، كثيراً جداً .. لهذا قال لي : اسمع بقا .. لما تتخانق ، اوعا تهدا .. صدقني ، اللي بياخد الخناقة ، مش الأجمد ولا الأرجل .. اللي بياخدها الأجن .. خليك مجنون وأرمي نفسك ..
هززت رأسي ، قال لي : وخاف على زميلك .. اضربه ، بس ربنا مبيسامحش في التعوير ..

الاثنين، 12 أبريل 2010

عام واحد

إلى فوزية توفيق
** ** ** **
العزيزة بيرّي ..
لاحظت فجأة .. نعم .. أن هناك عاماً كاملاً قد مر ! .. العجيب أنني أشعر أن كل هذا قد حدث بالأمس فقط ، حين عرفت أنك قد رحلتِ .. و بكينا ، و بدأت أمك ِ في تعاطي مضادات الإكتئاب .. وعندما سكن هذا الحزن في قلبي ، ولم يغاردني أبداً .. عام كامل ..
لم أستطع التحدث مع والدتك ولو لمرة من ساعتها ! .. أنا أتجنب الحديث معها بصراحة .. آسفة . ولكنني ببساطة لا أستطيع .. لقد فقدتك ِ ، ولا أعرف من أين أحتلتني قناعة أنني سأذكرها بكِ (كما لو أنها قد نسيتك لحظة) ، أعني .. كنا دوماً معاً ، نفس الكلية ، ونفس أشياء عديدة نتشارك بها ، وطلبت هي مني النصيحة عندما أتى إليك ما أتى . كنا مرتبطين دائماً ! وعشت أنا و متِ أنت ِ ! كيف إذن أتحدث معها ؟! .. لا أستطيع .. لا أستطيع التعامل مع ألمها .. أعرف أخبارها عن طريق أمي ، تخبرني أمي أنها فقدت حس دعابتها . أن ملامحها تختفي ببطء . قلبي معها . أفقد رؤيتها .. حقاً أفعل .. أفقد حتى قهقهاتها على الهاتف ، بالظبط كما أفتقد رؤيتكم جميعاً معاً .. حين كنا نقوم بهذه الحيل البلهاء لكي نلتقي ، ونبدأ ثرثرتنا الفارغة ! لكننا كنا معاً ، وكنت انتِ معنا . لن أتساءل عن حكمة الله الآن فيما يحدث ، لن أجدف .. بسببك ، عرفت كم هو الموت قريب .. أتذكر هذا كما أتذكر أن الحياة نعمة ، لأنها يمكن أن تنتهي في أي لحظة ! .. لم أقل لأحد أنني كل مرة أستقل فيها سيارةً أشعر بالرعب (حرفياً أشعر بالرعب) .. أصبحت حادثتكِ تسكنني ! . كل مرة أحتضن أختي الصغيرة ، قبل الخروج .. أرتجف من فكرة أن هذه هي قد تكون المرة الأخيرة التي تراني فيها . يذكرني موتك ِ بكل هذا ! وأحاول أن أستمتع بيومي ، وأقمع خوفي الذي يصاحبني في كل خطوة أخطوها خلال اليوم .. لكن الفكرة أن الحياة قصيرة جداً ! .. وأنها عاجلاً أو آجلاً ، تنتهي .. وأنها قد تنتهي في أي لحظة ! .. أنت كنت هناك ، مع أصدقائك ، تضحكين وتمزحين .. و تحدث حادثة .. يخرجون جميعاً منها سالمين .. وأنت ِ .. أنتِ فقط تموتين .. بمنتهى البساطة .
كان موتك درساً موجعاً ، قاسياً .. يا عزيزتي .
كم أتمنى لو كنت صديقة أفضل .. ولكنني بكل صدق ، أتمنى أن تصبح أمكِ بحال أفضل ! ليست عندي أي قدرة على تخيل كيف تناضل لتستمر في حياة من غير وجودك فيها .. ربي القدير .. أجعل طانط دينا تتعافى . فقط من أجل ولديها الصغيرين الذين يحتاجان حقاً إلى صوتها ، وسلامتها .. إلهي الرحيم .. أغمر قلبها بالسكينة .
أعرف أنك في مكان أفضل يا بيرّي .. أدعو أن نلحق بك يوماً في الجنة .
أدعو ليرحمك الله .. و لتظل سيرتك دوماً بيننا ، ولنتذكرك دائماً ( أدعو لك يومياً )
لك دائماً
هاجر
** ** ** **
الأصل ، باللغة الإنجليزية ، في مدونة Epitaph .. وكل الشكر لها

الجمعة، 9 أبريل 2010

بعض الأشجار لها رائحة


لم أستطع تذكر آخر مرة انفردت فيها بأبي .. في الواقع ، خطرت ببالي فكرة جفلت منها ، هي أنني لم أجلس أصلاً مع أبي وحدنا من قبل .
حدث الأمر بترتيب عشوائي بحت ، سافر أهل البيت لمحافظة أخرى ليعزوا أشخاصاً لم أسمع عنهم في حياتي ، في وفاة شخص لم أسمع عنه في حياتي . وبقي أبي هنا لأن هناك وردية في المساء ، على أن يخرج منها مباشرة على محطة القطارات ، وأنا رفعت يدي من المسألة منذ البداية ، وقلت لهم أنني لا أتخيل أن أمد يدي لأسلم على أشخاص لم أرهم في حياتي ، والألعن أن أقول لهم أنني حزين لما حدث لهم ، وأنهم يجب ألا يأخذوا الأمر على محمل شخصي ، فالبقاء لله كما تعرفون .
بقي أبي إذن ، أستيقظ عندما أذن الظهر .. سمعت صوته ، صوت تحركاته ، صوت السيفون تحديداً ، ثم صوت الدوش ، ثم صوته هو شخصياً ، ينادي علي ، ليطلب مني منشفة ، استغربت الأمر ، أنه عرف أنني في البيت ، صوت التلفاز لم يكن عالياً ، أنا كنت أقرأ أصلاً ، والجهاز كان أمامي كخلفية أنظر لها من حين لآخر ، مفكراً أنه في المستقبل القريب ، لن يقرأ أحد في الحدائق العامة ، وسيكتفون بعرض مناظر طبيعة على الحائط مثلاً ، بالظبط كما يفعلون في السجون لتهدئة السجناء .
ذهبت له بالمنشفة ، طرقت الباب ، مد يده المبللة فقط ، وألتقطها .. تركته وعدت إلى مكاني ، جلست وفكرت أنه من الغريب فعلاً أن ينسى أبي المنشفة ، مع عقل يهتم بالتفاصيل ربما لدرجة الهوس ، من المستحيل أن ينسى أمراً كهذا وهو يحضر لحمامه .
وجدته أمامي بعد خمس دقائق ، ينشف رأسه ، شعر رأسه ، ما تبقى من شعر رأسه ، نظرت له ، لم يكن يرتدي إلا المنشفة على وسطه فقط ، وأنا ضحكت وقلت له : يا منحرف يا جامد . وهو تساءل عن امكانيه الإنحراف بكرش كهذا ، وانا قلت أنه السر كله .. سمعت صوت ضحكه وهو يتحرك ليدخل غرفته ، هدأت حدتها قليلاً وهو يسألني : تاكل حاجة ؟ .. قلت له أنني أكلت فعلاً ، بدا وكأنه تفاجأ بهذا ، لأنني لم أسمع صوته ، شعرت أنني أريد أن أقول له أن يعمل حسابي طيب ، ولكنني قررت ألا أفعل .. خرج من غرفته وهو يرتدي ملابس البيت ، ويمسك بيده شريط دواء ، ابتسم لي وقال أن أخلي بالي من أخواتي لو أخذ هذا الدواء الآن .. سألته عن السبب وانا أبتسم ، أكتيفيد .. قال .. الحقيقة أنه ، وأنا كأمتداد طبيعي لسلالته ، نعاني من صعوبة بالغة في التعامل مع مضادات الهستامين .. نأخذ الحبة من هنا ، وتبدأ الأعراض اللعينة ، دوخة ، وصداع ، ورغبة شنيعة في النوم .. سالته إن كان مزكوماً ، نفى هذا ، وقال أنه يعاني من احتقان في لوزتيه ، قلت له أن يأخذ أي مضاد حيوي وخلاص ، لكنه هز رأسه مؤكداً أن الإفرازات المخاطية ستدمره بعد ساعات ، لهذا سيستبق الأمر ويأخذ حبة الآن .. هززت كتفي ، ولكنني نظرت له ، حين قال أنه أنني محظوظ لأنني لا أعاني نفس المشكلة كلما أخذت نفس الدواء ، حاولت أن أقول له أنني انام بالساعات ، ولكنني أكتفيت بالنظر ، ولم أعلق .
غاب لفترة في المطبخ ، عاد بطبق مملوء بالأرز والبامية ، في أحد أطرافه تستقر قطعة لحم، وضعه أمامي على الطاولة أمام التلفاز ، ثم غاب ثانية ، وخرج بطبق آخر ، أمسكه هو ، وجلس بجواري على الكنبة ، شعرت برغبة في شجار ظهيري لا بأس به ، قلت له ، أنني قلت له أنني أكلت .. وهو كان يمسك الطبق بيده اليسرى ويفتش في ثنيات الكنبة بالأخرى عن الريموت .. قال لي أنه يعرف ، ثم قال : كُل معايا يا عم .. فشل في العثور عليه ، وقال ، غريبة ، كنت لمحته .. سألني إن كان خلفي ، وانا قلت له أنني منذ أن أستيقظت أشاهد هذا الهراء لأنني لا أجد الريموت .. قال لي أنه خير ، قلت له أنهم في بعض السجون يبثون مشاهد لمناظر طبيعية طول اليوم على السجناء لأنهم وجدوا أنها تهدئهم ، وتقلل كثيراً من معدلات الشجارات بينهم ، بدا مهتماً ، أكملت أن المستقبل ربما ، سينهي عادة القراءة في الحدائق ، ويستبدلها بشاشة تعرض عليك صور أشجار لا تشم لها رائحة ، وأنت تقرأ ، ابتسم ، قال أنه في المستقبل لن يقرأ أحد .. ثم توقف عن الأكل وسألني بفم نصف مملوء ، عن رائحة الأشجار ، قلت له أن بعض الأشجار لها رائحة .. هز رأسه . ثم سألني عن عادة القراءة في الحدائق ، قلت له أنه يجب أن يجربها يوماً ما ، الصباح الباكر جداً ربما ، أو المغربية .
دون مقدمات ، دون كلمة تمهد ، وبعد أن توقف عن الأكل لدقائق ، سألني مباشرة : لست أباً سيئاً في المجمل ، صح ؟ .. مططت شفتيّ قليلاً ، وقلت أنه ليس أباً سيئاً .. هز رأسه ورفع الملعقة إلى فمه .
بابا ، نظر لي ، قلت : أنا بنام نوم أهل الكهف لما باخد الدوا دا .. تساءل : أكتيفيد ؟ .. قلت له : آة .. قال : يا راجل ؟ .. هززت رأسي ، وقلت : آة والله . نظر في طبقه وبدا على ملامحه الاستغراب وقال : مكنتش أعرف الحكاية دي .. هززت رأسي بمعنى أنه عادي يعني ..
أعتدل في جلسته ووضع الطبق على المائدة ، وبمجرد أن لامس ظهره ، مسند الكنبة الخلفي ، مددت يدي له بالريموت .. نظر ليدي ، وقال : يا راجل ؟ .. وانا أبتسمت بركن فمي ، وكتمت ضحكي ، وقلت : آة والله

السبت، 3 أبريل 2010

بالسلامة


كان الفاصل الزمني بين آخر مرة كنت فيها هنا ، وبين الآن ، كبيراً .. يتجاوز الشهور بتقدير مبدئي ، لم أفكر فيه إلا عندما صمتوا جميعاً ونظروا لي .. كنت أفكر في أمرين بالتحديد ، الفاصل الزمني الممتد ، و المرات التي أغلقت فيها هاتفي ، عندما كانت الإتصالات تزيد عن مرتين .. شعرت بالحرج ، وزاد الأمر سوءاً ، الصمت الذي تلبسنا .
كان معي كتاب ، وكنت ، كعادتي أفكر في موضوع لا علاقة له بما يحدث ، كان الكتاب يتحدث عن عام سيء ، ، و أفكاري كانت تتمحور حول داليدا .. رغم أني لا أحب سالمة يا سلامة .. وإن كنت أحب حركتها على المسرح وهي تغنيها .. ورغم أن عامي لم يكن سيئاً .
قلت : صباح الخير .. وقام واحد ليسلم علي قائلاً أن الحمد لله على السلامة ، قلت له الله يسلمك ، وسحبت كرسياً ، وجلست متحاشياً النظر لأحد ، لكنهم كذلك لم ينطقوا بكلمة ، وشعرت أن وجهي يحمر ، وأنني أريد الجري من هنا ، لكن تفكيري هذا كان غير واقعي ، فأعتدلت في جلستي ، و سألت عن الأحوال .. تحدث إثنان أو ثلاثة ، ثم كان لابد من سؤالي نفس السؤال .. وأنا أمسكت الكتاب ، وقلت أنني غيرت رقم هاتفي .

المتابعون