الأحد، 9 أغسطس 2009

نصر صغير على الموت



الشعراء يموتون كذلك ، شأنهم بطبيعة الحال كشأن أي كائن حي .. شأنهم شأن الأسد والفراشة والقط والفأر حتى .. نشترك جميعاً في هذا التسلسل العجيب .. أن نولد فنحيا لبعض الوقت ، ثم نرحل بكل بساطة الكلمة ..
بصراحة ، أعتبر ذكر المسلمات بإعتبارها شيء يثير الدهشة ( كما أفعل الآن لو تلاحظ ) ، أن يصرخ شخص ما فجأة لأنه وضع يده على اكتشاف عظيم ، وهو أن الناس تموت ، شيء يستدعي الشفقة على الدماغ البشرية التي يحملها هذا الحمار ..
لكن الحقيقة أن موت محمود درويش ( مارس 1941 - 9 أغسطس 2008) فاجأني بالفعل .. ليس لأنه أتى فجأة ، أو لأنني كنت غافلاً فنبهني الموت وجعلني أظهر في المشهد التالي مغموراً بمياة الوضوء وحاملاً سجادة صلاتي ، كما يحدث في القصص الرديئة .
الحقيقة أن هذا أمر لا يختص بمحمود درويش نفسه ، ولو أن موته كان استثناءاً في كل شيء ، حتى في توقيته ..
لم أستطع التفكير إلا في أنني لن أقرأ له قصيدة تحمل وصف "الجديدة" .. سأتوقف إذن عن استخدام تعبير التجدد الذي كان يعشقه الرجل .. انتهى الأمر بكل بساطة الكلمة . لن تراه مرة أخرى في أمسية شعرية ينقلها لك التلفزيون حاملة على إحدى زاويتيها العلويتين كلمة :" مباشر " .. أصبح الوضع الآن موصوفاً بكلمة مقيتة وهي "الإعادة" لو كانوا رفقاء ، أو " مسجل " لو كانوا على درجة لا بأس بها من الفظاظة .
أكره الحديث عن الموت .. أكره الموت ذاته .. الأمر ليس أنني أحب الحياة (وأنا أحبها بالفعل) ولا لأني أخشى الموت (وأنا أخشاه بالفعل) ، الأمر أنني أكره الموت ببساطة لأني أمقت تبعاته ، وأمقت كلمتي " تسجيل " و "إعادة " اللعينتان .. أكره كون الجميع لا يتذكرون شخصاً إلا عندما يموت ، أكره احتفال مكتبة الإسكندرية بوفاة الرجل ، وأكره مشاهدة أفلام كثيرة ليوسف شاهين يوم وفاته ، وأكره كوني أكتب عن محمود درويش في يوم وفاته ، ربما في نفس الوقت الذي توفي فيه لأني لا أختلف في السوء عن أي من هؤلاء .. وأكره كوني أكره كل هذا لأني لا أستطيع تحديد الخطأ في الكلمتين أو الشيء الناقص في احتفالية مكتبة الإسكندرية ، ولا عرض التلفزيون للأفلام في ذكرى الوفاة .. أتذكر كلام التوحيدي عن أن " هناك ما يدور في الحواس ، يصعب أن تمثله الصفة " وأحاول تحديد ما يمكن أن أصف به كل هذا ، لكني أفشل ببساطة .
أكتفي فقط بالقول أنني حزين على وفاته ، وحزين أن ما يكتبه قد توقف على ما نملك الآن .. وآسف لأني لن امشي وراء أي رابط أراه في محركات البحث عن " قصيدة جديدة لمحمود درويش " لأنني أعرف أن هذا خبر قديم دون النظر حتى إلى التاريخ المجاور للخبر .
** ** ** **
هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي
علي الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتان ِ :أَنا ، وأَنا الأنثويَّة
ُيا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلي ما تحبّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ - لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /
من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراًمن الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !
يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه :هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْوتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة
للحياة أقول : علي مهلك ، انتظريني
إلي أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاُخطئ في اللحنِ /في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . علي مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
علي رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /
حتي علي الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /
(لاعب النرد .. محمود درويش )


ليست هناك تعليقات:

المتابعون