الخميس، 23 أبريل 2009

فـي الـحـقـيـقـة


كان ملمس يدها شديد الاعتيادية , فكر بعدما أفلتها بثوانٍ أن اليد لا تختلف عن أي فتاة صافحها طوال حياته ..
كان يتوقع شيئاً مختلفاً في الحقيقة , ليس شيئاً شديد الرومانسية مع ذلك .. ليس مثلاً أن تنفجر الأزهار في يده , أو ينبثق نبع ماء يسيل حتى يقول في فزع شيئاً قريباً من "زُمّي زُمّي" , أو أن يهدأ الجو و يصفو , وتنتظر العصافير على الشجر ما سيحدث بينهما الآن .. أو تقرر فجأة أن تهبط لتشرب من نبع الماء هذا .. فتصاب هي بصدمة مما تراه , ثم تبتسم مثلاً وتقرر أنها لا يمكن أن تخاطر بالابتعاد عن شخص تشرب العصافير من يده .. متناسية مع ذلك _ أو لذلك _ أنها سبب وجود النبع من الأصل ..
كل الأشياء على مثل هذه الشاكلة , توقف عن التفكير فيها منذ فترة , ليس لأنه اقتنع بعدم واقعيتها , أو جدواها , ولكن لأنها لم تعد تنهال على رأسه كما كانت تفعل قديماً .. لم يكن يتوقع لأي من هذه الأشياء أن تحدث إذن , لكنه , في ذات الوقت , لم يتوقع أبداً أن تكون يدها بهذه الاعتيادية ..
ما حدث ببساطة ، أنها تركت يدها في يده بعض الوقت ، وحركتها صعوداً وهبوطاً ، ثم انتزعت يدها ببساطة ، ولم ينبثق نبع ماءٍ حين صافحها , ولم يجف حين تركت يده ، ببساطة .. وبالمناسبة , العصافير التي كان سيعتقد في أي ظروف أخرى أنها تراقبهم الآن ، لم تكن موجودة أساساً .. وشعر هو أنه يفتقد صوت الزقزقة جداً في تلك اللحظات دون تفسير .
في الحقيقة , كان الصوت الوحيد الذي يسمعانه هو صوت القطارات التي كانت تتوقف بجوارهما لبعض الوقت ، ثم تستمر في رحلتها .. فكر أن افتراقهما الأول في محطة قطارات هو شيء رومانسي جداً .. لن ينسى هذا أبداً ، كذلك أنه سيقول بعد ذلك أن افتراقهما هذا لم يكن صاخباً على الإطلاق .. وأنهما فعلاها كشخصين ناضجين .. ولكنه لم يستطع تحديد إن كانت كلمة "ناضجين" هو شيء يجب على المرء قوله أم إخفاؤه .
ما كان ينقص المشهد فعلاً هو المطر .. صحيح أن السماء كانت ممتلئة بالسحب نوعاً ما .. إلا أن هذا لا يكفي مطلقاً ..
لابد من المطر في أي افتراق لكي يكتمل المشهد بشكل صحيح .. وهو عندما فكر في هذا تساءل إن كانت هذه بشرى خير أم لا يمكن التعويل عليها .. وعاد ثانية للتفكير إن كانت الفكرة صحيحة أم أنها مجرد فكرة تقليدية في الأفلام ..
توقف عن الحديث لفترة تساءل فيها بداخله إن كان إتمام المشهد كما ينبغي يهمه أكثر ، أم عدم اكتمال عناصره بما يسمح بتغيير نوع المشهد أساساً ..
ربما يعني عدم الاكتمال أن الفراق لن يكون أبدياً لهذه الدرجة ، وأن لحظة ظهور طاقم عمل الفيلم ستتأخر بعض الوقت ..
ابتسم للفكرة الأخيرة ، فسألته لماذا يضحك .. عقد حاجبيه ، وشعر بثقل في لسانه وهو يقول أنه يبتسم فقط .. وهي هزت رأسها وكأنها لم تسمعه وسألته عن سبب الابتسام ، فعقد حاجبيه أكثر متسائلاً عن سبب تساؤلها ، قالت انها تتساءل لأنه من الغريب أن تتحدث هي بكلام ينز نكداً ، فيبتسم هو .. وهو قال أنه لم يلتقط نصف كلامها الأخير لأنه كان يفكر في أشياء جعلته يبتسم .. وهي أدارت وجهها ناحية المقاعد الرخامية التي كانت خالية تماماً وصمتت .. أراد أن يقول شيئاً ما ، ولكنه قرر أن يكتفي بتأمل وجهها الذي يطل عليه من منظور جانبي ..
عندما أدارت وجهها مرة أخرى ناحيته ، وبتزامن لا بأس به مطلقاً ، كان القطار قد بدأ في الظهور من بعيد .. ابتسم مرة أخرى ، وهو يفكر أن الأمر بدأ يتحول إلى فيلم متقن جداً .. المشاهد يتم التقاطها بعناية شديدة ، وبلا ذرة من العشوائية ..
فكر في أنه يجب عليه قول شيء ما .. البطل لابد أن يقول شيئاً ما حين يظهر القطار .. ولكن شعور الثقل هذا استمر في السيطرة عليه ، فقرر أن يصمت تماماً حتى تتحدث هي ..
وهي لم تفعل إلا بعد فترة طويلة .. قضتها في النظر إليه .. فكر هو أن هذا كذلك لابد أن يحدث .. لكنه لم يستطع تحديد إن كانت النظرات التي ترمقه بها الآن نظرات اشتياق بإعتبار ما سيكون ، أم غضب بإعتبار ما كان ..
فقط عندما تحدثت سألته إن كان يريد شيئاً ما.. وهو شعر بأن الأمر يفلت منه ، وأنه لابد فعلاً أن يتحدث الآن , حاول تحفيز نفسه بالتفكير أنه سيندم كثيراً على حالة الخرس تلك فيما بعد ، فشكرها .. ثم انتبه ان هذا هو أسوأ رد فعل يمكن تخيله على جملتها .. لكنه عندما حاول تصحيح ما قال ، تحركت هي بالفعل .. هزت رأسها ناحيته ، وبعدها أعطته ظهرها ، وتحركت ببطء .
نظر للحقيبة في يدها التي لم تكن ثقيلة ، وتساءل إن كان مخطئاً لأنه لم يعرض حملها .. فكر في أن يسرع الآن ، ويمسك الحقيبة منها ، وهذا أولاً شيء سيريح ضميره ، وثانياً سيمنحه حجة لا بأس بها للحديث ..
هو تحرك فعلاً لكنه قرر أن يؤجل هذا إلى اللحظة التي ستلتفت فيها نحوه مرة أخرى قبل الصعود إلى القطار .. اللحظة التي ستمسك فيها بالقائم المعدني وتتوقف لثوان تنظر فيها إليه بشجن .. قبل الاختفاء ،
ما بدا له غريباً أنها لم تفعل .. لم تتوقف ولو لثانية .. ولم تنظر له لا بشجن ولا بغيره .. و لم تمسك القائم المعدني إلا لكي ترفع جسدها لتدخل إلى القطار بمنتهى الهدوء ..
هو شعر بأن هذا خطاً ..
لكن ما بدا مهيناً ، كان أنه حينما قرر أنه سيرحل قبل أن يتحرك القطار ، كنوع من الاحتجاج الصامت ، وبدأ فعلاً في تنفيذ قراره ،
وبزاوية بدت مستحيلة .. سقطت قطرة مطر على راحة يده اليمنى .. قبل أن تتلوها أخريات سريعاً ..

هناك 3 تعليقات:

Nour يقول...

نهايات قصصك دايما موجعة بشكل جميل قوي يا أحمد.. محمود عزت مرة علق على حاجة عندي وقال "دبوس في القلب" على النهاية برضه.. وده فعلا اللي أنا حسيته هنا
...
دبوس في القلب

روز يقول...

البداية شديدة الروعة لدرجة مريعة.. درجة مذهلة فعلا، ومبهجة كمان
ما شاء الله عليك
..
عدا كده مش ح اعلق

إيمان يقول...

رائعة يا أحمد كعادتك
واسلوبك مميز ومختلف وجميل جدا :)
استمر ياولدي

المتابعون