السبت، 26 يناير 2008


ويتكرر الأمر , فأكاد أفقد أعصابي حقاً هذه المرة ..

لم أكن أذكر رقم هذه المحاولة , لكنني , وأنا أكاد أنفجر من الغيظ , كنت على يقين أنه رقم لا بأس به ..

أتخذ قرار العبور , أتحرك بضع خطوات على أرض الشارع , بعدما نزلت من الرصيف , أندفع للأمام محاولاً اختراق سيل العربات , ثم أعود مسرعاً إلى مكاني الأول , بعدما يخترق أذني صوت تنبيه مجنون , أو علامات ضوئية يرسلها سائق السيارة , وهو يقترب مني بسرعة مخيفة , تصفح عيني .. وكأنها تشعرني بحماقتي ..

كنت أنظر لأرض الشارع , تحديداً لتلك المستطيلات البيضاء التي تبدأ من عندي وتنتهي عند الناحية الأخرى , ومن ثم أنظر لأولئك الذين يقفون ذات وقفتي .. ويحاولون ذات المحاولات الخرقاء لعبور الشارع , نحوي .

يصبح الوضع مزرياً حين يتحول روتين ما , كعبور الطريق , إلى حالة تستحق وضع الخطط , وترقب اللحظة المناسبة .

( عبور مشاة ) .. كنت أتأمل هذه اللافتة .. بعدما اتخذت قراري بالانتظار قليلا حتى يقل السيل .. كنت أتأمل اللافتة , وأعيد النظر للمستطيلات البيضاء , وأقف في هدوء .

بعض المتحمسين كانوا يتحركون من جواري ويسيرون على الرصيف , وكأنهم يتوقعون أنهم بهذا سيسبقون العربات , ومن ثم يعبرون في سلام , ولكنهم كانوا يفشلون في كل مرة . ربما كعقاب لهم على غبائهم !

آخرون قرروا أن لا جدوى .. وعادوا من حيث أتوا دون محاولات أخرى

أما أنا فكنت واقفاً لا زلت , أنتظر .. وأنظر للعربات التي تنقطع .
كنت أتوقع أن الزحام سيخلق نوعاً من التكدس المروري , ومن ثم تقل سرعة أي سيارة تمر .. لكن السيارات وجدت حلاً لهذه المشكلة على ما يظهر ..

كانت كلها تتحرك بسرعة تكاد تكون واحدة .. لهذا لم تتأخر منهن واحدة وتؤخر ما بعدها , فنعبر نحن .
كل السيارات توصلت لاتفاق ضمني يسمح لها بالحركة كما تشاء وبالسرعة التي تريد .

أما نحن .. فكنا فقط نقف .

هذا ما كنت أفعل حين جاء هو .. لم ألمحه في البداية .. فقط سمعت صوته وهو يتمتم بعبارات لم أميزها على الإطلاق .. وحين نظرت لمصدر الصوت , وجدته أمامي ..
" منغولي " .. ما أصعب أن يُختزل إنسان في كلمة ..
كان يرتدي قميصاً واسعاً للغاية , يغطي ذراعيه وتتدلى أكمامه منهما .. لم أميز عمره .. لكنه لم يكن صغيراً بحال من الأحوال .. حاولت أن أتذكر متوسط عمر هذا النوع من الحالات لكنني وأنا أعيد النظر له , وهو يحاول أن يجمع بضع كلمات في جملة واحدة .. تساءلت عن كنه مرضه تحديداً .. كل ما كنت متأكداً منه أن حالته العقلية , من النظرة الأولى , تقل كثيراً عن المعتاد .. لدرجة التخلف بطبيعة الحال ..

أمسك فجأة بذراعي الأيسر .. ومد ذراعه اليمنى إلى أقصى امتداد لها إلى الأمام .. وضح من ذلك طول أكمام القميص عن ذراعيه .. وهو ما جعلني أبتسم , بعدما أجفلت للحظات .

" شارع " قالها ففهمت .. قربت أطراف أصابعي من بعضها البعض وحركتها للأعلى والأسفل وأنا أقول له أن يصبر قليلاً ريثما يخف الزحام .

لم يبد عليه أنه سمع كلمة مما قلت .. فقط نظر للأرض .. وظهرت على وجهة ملامح معاناة , عاقداً حاجبيه , زاما ً شفتيه , وهو يحاول أن يجمع بضع كلمات يقولها لي .. كل هذا وهو لا يزال يمسك بيده اليمنى ذراعي اليسرى بشدة .. في النهاية أعاد ما قاله وهو يشير مرة أخرى إلى الناحية المقابلة ..
" شارع "

أومأت إيجاباً وشعور كأنه نفاذ الصبر يداهمني .. أعدت عليه ما قلت , ومرة أخرى لم يبد أي رد فعل يوحي أنه فهمني , ثم فجأة ترك يدي وتحرك للأمام ..
أجفلت وأنا أراه يتقدم بخطوات بطيئة .. مددت يدي بسرعة وقبضت على ذراعه اليمنى بكلتا يدي وأنا أصرخ
" استنى بس "

بعدما توقف تحركت لأقف أمامه مانعاً إياه من التقدم أكثر مما فعل , ولم يبد عليه أي شيء عدا تقلص عاد مرة أخرى لوجهه وكأنه يمتعض من شيء ما .

عدت لمكاني بجواره , وما أن فعلت حتى كان هو يتحرك مرة أخرى , بسرعة هذه المرة , مفلتاً يدي اليسرى , التي كنت أمسكه بها , و متقدماً للأمام .

تقدمت أنا الآخر عدداً من الخطوات بسرعة تقارب الركض لأمسكه , حين سمعت صوت آلة التنبيه يدوي عن يميني .. كنت في هذه اللحظة قد أمسكت بيده اليسرى مرة أخرى فتوقف عن الحركة .. جذبته مسرعاً للخلف فرفض أن يتحرك بشدة .. نظرت لليمين فزعاً وصوت التنبيه يصبح متصلاً بشدة .. وأعلى أكثر فأكثر كلما اقتربت العربة .. ثم توقفت بصوت عال ٍ للغاية وخرج السائق من نافذته ليصرخ فينا بغضب مرعب .

كانت العربة قد توقفت على بعد مترين أو ثلاثة منا .. وكدت أفتح فمي معتذراً , شاعراً بالرعب من قرب العربة , ومن الحادثة التي كانت تبعد عنا مترين فقط .. لكنني فوجئت بها تحتل المسافة بيننا وبين العربة .. نظرت لي سريعاً ثم أبعدت نظرها عني ..

طالبة ثانوي في الغالب .. تلك الملابس المميزة توحي أنها لا تزال في المدرسة . في نهاية المرحلة المدرسية كتعبير أدق ..

لم أدر ماذا أفعل , لكنه _ من بجواري _ وفر علي هذا التردد , متحركاً للأمام مرة أخرى مستغلاً انشغالي عنه للحظات , فتحركت أنا خلفه , وتحركت هي بجواري هذه المرة ..

" يا نهار أسود " .. قالتها وهي تنظر ليمينها .. نظرت أنا الآخر ووجدت تلك السيارة التي تتحرك بسرعة رهيبة .. توقفت الفتاة عن الحركة وتخلفت عنا ببضع خطوات .. حاولت أن أجذبه مرة أخرى للخلف , لكنه توقف تماماً عن الحركة مظهراً تعبير التقلص الذي يبديه لي بوجهه كلما حاولت إيقافه ..
جذبته مرة أخرى بقوة أشد .. فقاوم هو الآخر بشدة ..
أغمضت عيني وأنا أستمع للهدير بجواري متوقعاً أن يتحقق الاصطدام هذه المرة لابد .

" يا حيوان " بعد صوت الفرامل الخرافي الذي جذب أنظار المنطقة المحيطة بأكملها .. هدر صوت الرجل بغضب مجنون ..
مرة أخرى نظرت له ولعربته .. ثم وجدتها تعود مرة أخرى لتقف جوارنا .. هاربة من السيارة المسرعة التي كانت تتجة نحوها بعدما عادت للخلف متأخرة عنا .. نظرت لها .. فنظرت لي .. ثم نظرت للأرض وكأنها تعتذر عما فعلت.

سباب الرجل وصياحه , ونظراتها المعتذرة جعلاني أمسك يده هذه المرة بشدة , وأتقدم أنا وهي جواري , وهو مستسلم تماماً لأول مرة لقبضة يدي .


كنت أتحرك وأمد يدي اليمنى أقصى امتداد لها , ناحية اليمين وأنا أقول بصوت عال ٍ , وكأنني أكلم به نفسي :
" استني "

كادت أكثر من عربة أن تصطدم بنا , لكنني في كل مرة كنت أتوقف , فيتوقفان معي , ثم نعيد التحرك بسرعة .. واضعين أنفسنا في مواجهة السيارة التالية ..

حين وصلنا كنت لا أزال غير مصدق ..
كدت أقول شيئاً لكنني لم أعرف ماذا يمكن أن أقول , نظرت لها , ولم أدر هل هزت رأسها إمتناناً أم أنني تخيلت حدوث ذلك .. وهو أفلت يدي في هذه الأثناء .. أو أننا أفلتنا أيدي بعضنا في وقت واحد .. وهو يهمهم بكلمات ويشير بيده للسماء فينحسر القميص عن ذراعه ..
فهمت أنه _ ربما _ يشكرني , ويدعو لي _ ربما _ ..
ولكنني عدت فسألت نفسي كيف أظن أنه يفهم معنى الدعاء , أو الشكر حتى , وحتى لو كان يفعل .. من منا يفترض أن يشكر الآخر ..

هي تحركت لليمين .. وسارت في طريقها بهدوء .. وأنا كنت واقفاً وكأنني لازلت غير مصدق ..

ثم تنبهت بعد لحظات أنني لم أسأله أن سيذهب أو هل يعرف طريقه .. لابد من سؤاله وعدم تركه هكذا على أي حال .. ولكنني حين نظرت حولي , لم أجد له أدنى أثر .

المتابعون