الأربعاء، 26 ديسمبر 2007

.. أنا موجود


هناك أمور يصبح من الجنون والغباء أن نتجاهلها , أن نقف أمامها ونقول : " عادي " , ألا نفرح بها , أو نحزن , ألا ننفجر حين يجب علينا الإنفجار غضباً , وألا نرقص من السعادة حين يجب علينا .
إحدى دعواتي الدائمة أن يعطيني الله نعمة الدهشة .. ذلك الشعور العبقري الذي يهاجمني حين أكتشف كتاباً أحبه , أو أسمع أغنية أفتقدها , أن أرى عملاً فنياً يستحق الإعجاب .. وبالعكس ..أن أندهش من كل الغباء , والسطحية , والإبتذال الذي أراه كلما قلبت عيني ..
أن أندهش حين أكتشف أن نقودي قد نسيتها في البيت , وأن معي جنية واحد فقط .. هذا الجنية مهشم ومكرمش بشكل غريب , وأفكر كيف سيقطع سائق التاكسي عنقي .. وحين أقول له , يضحك ببساطة , ويقبل الأمر بمنتهى الغرابة , فأندهش أنا .. ولا آخذ الأمر وكأنه مسلمة من المسلمات ..
** ** ** **
منذ بضعة أيام وجدت أغنية بلهاء جعلتني أبكي كالأطفال ..
يقول الراوي , وهو أبي هذه المرة , أنه يوماً ما , من زمان جداً , حين كنت أنا في الثانية أو الثالثة من العمر , كان يركب سيارته الفيورا القديمة , تلك التي لا أعرف كيف يعتبرها البشر سيارة , رغم أن أبي حتى هذه اللحظة يحب الحديث عنها بإعتبارها الحب الأول ..
المهم أنه كان يسمع الراديو .. حين سمع أغنية إسمها 3 فرسان .. أبي أعجب بهذه الأغنية بشكل غريب , وسمعها , ثم حصل عليها , فقط ليغنيها لي لأنام ..
كانت هذه الأغنية إحدى أغاني المهد التي داوم أبي لفترة طويلة على غناءها لكي أنام ..
منذ بضعة أيام وجدت هذه الأغنية .. وجلست أبكي وأنا أضحك ..
3 فرسان كانوا راجعين من غزوة .. كانوا راجعين من غزوة يا سلام .. كانوا راجعين من غزوة .. أمفش .. :)
** ** ** **
هناك جامع جميل جداً بدأت أصلي فيه من فترة .. أنا أمر عليه منذ فترة طويلة للغاية لأنه يقع في طريق جامعتي .. لكنني لم أكن ألحظه أصلاً على ما يبدو ..
المهم أن هذا الجامع فيه ميزة رائعة الجمال .. أن الرصيف المقابل له يحتله أحد باعة الكتب المستعملة .. يفرش على الأرض بقطعة عملاقة من القماش , ويرص فوقها الكتب حسب أحجامها ..
بعد الصلاة إتجهت نحوه ووجدت (قالت ضحى) لبهاء طاهر بحالة ممتازة !
بهاء طاهر هو أحد الذين أكتشفتهم من جديد في هذه الفترة .. لا أعرف حقاً كيف لم ألاحظ كل هذا الجمال والشفافية في كتاباته .. المهم أنه الآن يحتل عندي منزلة عالية للغاية ..
(قالت ضحى) كان بحالة ممتازة .. هو أحد إصدارات دار الهلال هذه المرة وكان الثمن هو خمسة وسبعون قرشاً لا غير .. نظرت للبائع محاولاً إيجاد أي ملامح للسخرية في وجهة ولم أجد .. شعرت للحظات بتأنيب ضمير ساخر جداً (ضميري هو الوحيد الساخر على ما يبدو) .. بهاء طاهر وأحد كتبه الرائعة الجمال بخمسة وسبعين قرشاً .. المهم أنني أخرست ضميري الساخر وأخذت الكتاب ..
تحركت عدة خطوات .. قلبت في الكتاب سريعاً ووجدت الصورة ..
إبتسمت وأنا ألمح الطفل .. من لا يمكنه أن يفعل تجاة هذه الإبتسامة .. قلبت الصورة
ووجدت الخلفية التي تقول :
( أخذت هذه الصورة على شاطيء المندرة بالأسكندرية في يوم الأربعاء 12 أغسطس 1964 ..)
هذا (الطفل ) كان (طفلاً) منذ 44 عاماً ..
لو فرضنا حسب الصورة أنه كان يبلغ الرابعة أو الخامسة من العمر .. فهو الآن في الخمسين من العمر
هذا (الطفل) أصبح الآن في الخامسة والخمسين من العمر! ..
لم أستطع النطق حقاً من روعة إكتشافي ..
من جمال ملامحه .. من روعة النظرة ومن صفائها .. من جمال الموقف نفسه ..
من مجرد أن كل هذا , وقع في يدي أنا في النهاية .. وهي الفكرة التي جعلتني أبتسم طويلاً .. هذه الصورة أخذت عام 1964 , ووصلت ليدي في عام 2007
يفصل بين التاريخين عمر كامل .. كيف يمكن للمرء ألا يصاب بالجنون بعد كل هذا ؟!
فقط أدعو الله أن يديم علي الإكتشافات ..
وأهم إكتشاف أنني على صواب في وساوسي .. لأنني مغرم بكتابة التاريخ على كل ما يتعلق بذكرى لي .. على تذاكر القطارات .. أكياس الشيبسي , أغلفة الشيكولاتة .. على الصور وعلى الملابس القديمة أحياناً ..
أن أطمئن .. فحين تقع إحدى تذكاراتي التي أضعها في كتبي دائماً في يد شخص ما , سيعرف أنني كنت هنا .. أنني وجدت يوماً ما
يمكن لي الآن أن أقول بكل ثقة ممكنة أنني أندهش .. إذن فأنا موجود

المتابعون