الجمعة، 16 نوفمبر 2007

توت يفوت ولا حد يموت

"انت متأكد انه عادي يعني" _
_ " آة والله عادي .. عملناها كذا مرة
لم أتكلم وفكرت في الأمر قليلاً .. العرض مغر ٍللغاية ..
مغري لأسباب كثيرة .. أولاً أنا لم أذق التوت في حياتي تقريباً .. والفتى يصف طعمه وكأنه سيحمل لي أسرار الكون .. ثم أن هناك الخيال الذي يصور لي عملية إقتحام المدرسة وكأنها فتح عكا ..
كل هذه الترتيبات , ومسألة القفز من فوق السور , ويوم الجمعة , أي أنني سأستمتع بيومي جداً ..
ولكن السبب الحقيقي الذي جعلني لا أستطيع رفض العرض كان أبسط من هذا بكثير ..
في هذه الفترة.. الصف الثاني الإعدادي تقريباً .. كنت قد عدت من الخارج بعد أن قضيت عمري بالكامل خارج مصر تقريباً عدا عام أو أثنين .. كنت بلا أصدقاء على الأطلاق كما يمكن التخيل .. كل أصدقائي الذين كونتهم في الخارج ضاعوا ببساطة شديدة , ربما أبسط مما كنت أتخيل ..
لم يكن أمامي سبيل لرفض العرض إذن .
جاء هو , كان أسمه إيهاب تقريباً .. وعرض علي الأمر منذ البداية .. هناك شجرة توت في المدرسة , وأشار نحو شجرة عملاقة تحتل مكاناً مميزاً في فناء المدرسة . لم أكن أعرف الفرق بين شجر التوت وغيره , لكني بالطبع نظرت لها بإنبهار ..
شجرة التوت هذه لا يمكن لنا أن نحظى بثمارها لأننا لا يمكننا تسلقها الآن , وسط اليوم الدراسي , لأن المدرسين لن يسمحوا لنا بأي حال من الأحوال أن نفعل ذلك ..
ما الحل إذن ؟ ..
أن نأتي هنا , للمدرسة , يوم الجمعة صباحاً .. يمكننا بعد أن نتسلق سور المدرسة أن نملك المدرسة بما فيها .. ساعتها سنأخذ من شجرة التوت كما نشاء ,
_ "طول اليوم هناكل زي ما أحنا عايزين "
كل هذا كان يهمني فعلاً .. شجرة التوت , وأن نتسلق السور , كل هذه الأمور أعجبتني جداً .. لكن ما جعلني أفرح من داخلي حقاً هي صيغة الجمع التي كان يتحدث بها .. نحن .. جميعاً .. أي أنهم , أخيراً , بمعنى أو بآخر يعتبرونني منهم ..
أسعدني هذا فوق الوصف .. ولم أستطع أن أرفض على الإطلاق ..
_ " خلاص .. يوم الجمعة "
قلتها وانا أكاد أنفجر فرحاً .. سآكل التوت .. ومع أصدقائي الجدد ..
تذكرت وأنا أسير في طريق عودتي أنني لم أسأله عن الموعد .. ركضت نحوه مرة أخرى وسألته .. فكر قليلاً ثم قال :
_ " بعد الصلاة طبعاً "
هززت رأسي في تفهم ..
_ " خلاص .. يوم الجمعة "
** ** ** **
كيف كان لأمي أن ترفض وأنا أقص عليها ما سنفعل ؟!
حينما أعيد التفكير في الأمر , وأتأمل في إستغراب , موافقة أمي السريعة , وهي التي تقلق من تأخري لمدة نصف ساعة عن ميعادي الذي أقول أني عائد فيه , حينما أفكر في مسألة سرعة موافقتها , يزول إستغرابي تدريجياً حين أستعيد الحماس الرهيب الذي كنت أتحدث به عن شجرة التوت العملاقة ( دي كبيرة أوي يا ماما ) .. وعن أصدقائي ( دول كلهم قالوا لي تعالى معانا ) وعن التوت ( طعمة زي السكر .. والله قاللي كدا.. اللي لونها أحمر طعمها كدا .. اللي لونها أخضر طعمها حلو بس مش زي اللي لونها أحمر )
كيف كان لأمي أن ترفض بعد كل هذا ؟!
بعد كل هذا الحماس الذي أتحدث به , وأنا الذي كنت , كما تقول , لا أكاد أذكر لي صديقاً أو حتى شخصاً أعرفه في المدرسة
_ " طيب روح بس ما تتأخرش "
** ** ** **
حاملاً كيساً بلاستيكياً , قلت لأمي أني سأجلب فيه غنائمي , مصطحباً أخي الصغير معي .. ومتجهاً نحو مدرستي ..
_ " أنت تفضل تحت تستنى لحد ما أنزل لك .. أصلك مش هتعرف تطلع الشجرة .. خلاص ؟ "
يعترض أخي الصغير على هذه التفرقة العنصرية لكني أمارس سلطتي بإعتباري الأخ الأكبر ..
_ " خلاص "
يقول في النهاية ..
عندما يصمت أعود أنا فأقول :
_ " أصل الشجرة عالية أوي وأنت مش هتعرف تطلع "
يكرر هو صمته , فأضطر أن أقول في النهاية :
_ " طيب , هتطلع بس مش هتطلع لحد فوق خالص .. عشان بس ما تقعش .. "
_ " خلاص ماشي "
يقولها هذه المرة بلهجة رضا نوعاً ما .. أطمئن أنا .. الأمن مستتب
** ** ** **
لم أدرك الأمر إلا بعد مرور فترة لا بأس بها ..
كنت قد قفزت من فوق بوابة المدرسة المرتفعة نسبياً .. توقعت أني ما أن أدخل إلى فناء المدرسة سيتم إستقبالي كالأبطال , لكن الأمر لم يسر بهذا الشكل مطلقاً
_ " هما صحابك فين يا أحمد ؟ "
يقولها أخي الصغير , فلا أعرف ماذا أقول .. أقول له أنهم بعد قليل , من المؤكد , سيأتون ..
أقترح عليه أن نجلس على المقاعد الرخامية قليلاً ريثما يأتون .. يوافق بلا حماس ..
أستغل فترة الصمت الطويلة , لكي أشرح لأخي كيف قمت , في فناء اللعب الذي نجلس فيه , بتمرير الكرة مباشرة لصديقي الذي سددها بقوة شديدة في المرمى , ويستمع أخي بلا حماس شديد , بلا حماس على الإطلاق كتعبير أدق .
** ** ** **
_ " وهنقول لماما إيه ؟! "
يقول لي أخي مجيباً على طلبي الجاف الذي طلبته منه ..
_ " مش هتقول حاجة .. هنقولها أننا كلنا كل التوت في المدرسة مع صحابنا "
يطأطأ أخي رأسه وهو لا يفهم سبب لهجتي الحادة , يسير معي بلا أي كلمة ..
كنت قد طلبت منه بلهجة في غاية الحدة أن يخرس تماماً عندما نصل للبيت , وألا يذكر كلمة لأمي عن عودتنا خائبين وأننا لم نقابل أحداً منهم , ولم أحاول أصلاً أن ألمس الشجرة , رغم أنه طلب مني أن نفعل , طالما لم يأت أحد .
** ** ** **
تسألني أمي عما فعلته في المدرسة , وهي تلاحظ أن حماسي قد خبا ..
أتماسك في البداية , أحدثها عن طعم التوت الجميل , وعن أننا لعبنا , وعن صديقي الذي كاد أن يسقط ,
ثم بلا أي مقدمات , أنفجر في البكاء , ولا أذكر إلا ثلاث كلمات لا غير :
_ " التوت .. صحابي .. الشجرة "
تحاول أمي أن تفهم السبب , تسأل أخي الذي يصمت في رعب وهو يراني أنهار بالمعنى الحرفي .. تحاول أمي أن تفهم أي سبب من أي نوع .. تكتفي في النهاية بالتربيت عليّ بلا كلام ..
وسط بكائي المستعر , أدخل يدي في جيبي , وأخرجها وهي تحمل الكيس الخالي ..

المتابعون