السبت، 13 أكتوبر 2007

.. رمضاني

.. غالباًَ يكون يوم الأربعاء طويلاً
سأحكي يوماً عن كيف أرى الأيام لكن هذا ليس موضوعنا الآن ..
المهم أنه كان يوماً طويلاً
انتهت محاضراتي وأتخذت طريقي ذاهباً للسايبر .. كان الطقس حاراً هذا اليوم , كنت فعلاً سأسقط من نقص المياة في جسمي حين قررت أن أغير طريق سيري اليوم ..
لم أمض في الطريق إلا ثلاث دقائق .. حتى وجدت الفتى .
الفتى هو أحد أصدقائي المقربين من السنة السادسة ..ولإعتبار رؤيته (حدثاً ) سبب مهم :
السنة السادسة في الكلية حالياً يتم طحنهم وتفتيتهم وممارسة كل أنواع التعذيب عليهم عقاباً لهم على ما يبدو على الفترة الطويلة التي قضوها تحت الشمس لا يفعلون شيئاً إلا أثارة غيظنا _نحن الفرافير_ بكم النشاطات المخيف الذي يقومون بها , من رحلات , معارض , تهريج , قلب راوندات , وكل ما يجعل الـ"فرافير" يشكون في وجود كلمة العدالة في الكون
المهم أننا أقتنعنا الآن بمبدأ العدالة ونحن نراهم يمسكون الكتب كما كنا نفعل نحن ويسألون بعضهم : "هي المحاضرة في أي مدرج "
كل هذا يغري حقاً أن أستمتع مع الفتى بكم ذل سيكفيني لمدة ثلاث سنوات من الآن .. لكني لم أفعل ..
قابلني بهدوء _وهو أبعد ما يكون عن ذلك_ وسلم علي ..
" أزيك يا أحمد ؟ "
"تمام .. أزيك أنت "
هز رأسه ..
" أنت رايح فين ؟"
سألني ..
" ماشي بقا .. انت رايح الجامعة "
"اه .. تيجي معايا ؟ "
قررت أن الوقت لازال معي , وأنني فعلاً مفتقد الحديث معه ..
مشينا قليلاً لأجده قد بدأ في الغناء ..
"ف كل حي ولد عترة ..
و صبية حنان
وكلنا جيرة وعشرة وأهل وخلان "
ملحوظة مهمة .. الفتى يملك صوتاً في غاية الجمال , وهو _على حد تعبيره_ لو لم يغن فلا أحد يستحق الغناء في هذا العالم .. دعك من هذا الغرور اللذيذ لكنه فعلاً يملك صوتاً بديعاً ..
" ماتغني أنت ساكت ليه ؟ "
يقول ..
" بسمعك "
" غني ياض "
أخي الكبير حين يقول لي "ياض" أتقبل الأمر , وأغني رغم صوتي الذي لا يملك أي مقومات جمال من أي نوع :
" زمانه ماشي بخطوة يضم
زمانها كبرت وبقت أم ..
زمان ضناهم في المدرسة كنز الأوطان "
يصمت هو فجأة ثم يقول : " همممممم" ..أفهم أنه يبحث عن أغنية أخرى .. لا إعجاباً بصوتي لا سمح الله طبعاً ..
" علي عليوة .. يالي .. ضرب الزميرة .. يالي .. وضربها حربـ.. لا مش حلوة "
قرر هو أن يغني شيئاً آخر :
" بعد ما أدا وبعد ما خد ..
بعد ما هد وبنا وأحتد
شد لحاف الشتا من البرد
بعد ما لف وبعد ما دار .. أنت ما بتغنيش ليه ؟ "
كنت أنا متوقفاً عن الكلام .. عن السير .. فقط أنظر له بذهول ..
"ايه يابني فيه ايه ؟ "
أحرك رأسي وأنا لا أصدق ما أنا فيه ..
" هي دي الأغنية بتاعه حط الدبلة وحط الساعة .. "
بدلاً من أن يجيب يغني وهو يبتسم ..
" حط سجايرة والولاعة .. علق حلمه على الشماعة .. الي قضى العمر هزار .. والي قضي العمر بجـ .. "
" يا نهار مش معدي " .. أكاد أصرخ وأنا أقول .. أكاد فعلاً أصرخ ..
أقول وأنا لا أعرف كيف يخرج مني الكلام .. فقط كلام متناثر لا معنى له إلا جملة واحدة :
" يخربيتك أنا بدور على الأغنية دي بقالي 5 سنين إن مكنش أكتر "
ينظر لي بذهول :
" إزاي يعني "
يبدأ كلامي في الهدوء :
" والله العظيم .. مسبتش مكان على النت محمد منير ليه اغاني فيه إلا ودورت على الأغنية دي .. مسبتش بجد .. "
هذه الأغنية رأيتها .. سمعتها .. اصطدمت بها.. لا أعرف تحديداً .. المهم أنها صادفتني مثلاً وعندي 14 سنة أو شيء من هذا القبيل .. رأيتها عندما كنت في الخارج مرة واحدة .. وظلت على بالي لكل هذه الفترة .. تحديداً جزء : " علق حلمه على الشماعة "
الذي همت به حباً .. لا أعرف لماذا لم أستطع الوصول إليها .. ولا أعرف كيف أصف شعوري حين وجدتها تأتي هي إلي بهذه البساطة الخرافية .. صديقي يدندنها ..
لن أصف _لدواعي إحراجية بحته_ تصرفاتي الطفولية في وسط الشارع فرحاً أني وجدت الأغنية ونظرات الفتى المُحرجة التي يحاول أن يقول فيها للناس : " أنا معرفهوش والله .. هو الي شبط فيا " ..
فقط سأقول أنني أحسست به سعيداً .. سعيداً لأنه أسعدني .. وكنتيجة لذلك : سعدت أنا لأنه سعيد بإسعاده لي ( طبق طبقنا في طبق طبقكوا)
حين ودعته وسرت في الطريق مرة أخرى كنت أضحك .. أضحك بطريقة غريبة فعلاً وأنا أغني :
" اللي قضى العمر هزار .. واللي قضى العمر بجد .. شد لحاف الشتا م البرد "
لأسباب كهذه كان رمضاني مميزاً .. أشياء كثيرة وجدتها بعد أن كانت مجرد تهاويم في رأسي , تصبح حقيقة مرئية بنفس واقعية الأغنية ..
** ** ** **
الصوفية ..
لن أتحدث عن المذهب , وأنا لست صوفياً بالمناسبة , فقط سأتحدث عن كوني أتحدث ليلاً في مكالمة تليفونية عن الصوفية وجملة محمود درويش : " فإن البصيرة نور يؤدي إلى عدم أو جنون " وعن كوني في وقتها أكتب قصة قصيرة (أسميتها فيما بعد بصيرة ) وأستيقظ بعدها لأجد أن العدد القادم من جريدة أخبار الأدب سيكون عن لمولانا جلال الدين الرومي
التهاويم التي أراها الآن أمامي بنفس صدق الورقة والقلم
** ** ** **
عن كوني في الصباح .. أقرر أن أبدأ قراءة (سفر البنيان ) لجمال الغيطاني مرة أخرى.. وأكتب جملة (لتمام الظهور لابد من غياب) في دفتري الأثير ..
لأركب مع سائق تاكسي يقوم بتحضير رسالة في شيء ما و (نجيب محفوظ نموذجاً) وليشكو لي بصدق غريب ما يعانيه من ضيق الوقت , فأقول له جملة الغيطاني .. وأشبهها له بمبدأ البذرة التي لابد لها من غياب طويل حتى تظهر على حقيقها .. كما يُراد لها
ليصمت هو ويشكرني .. ويرفض أخذ قرش مني بعد التوصيل ..
تهاويم تصبح واقعية بنفس روعة السخاء
** ** ** **
سايبري الأثير إلى نفسي يغلق أبوابه قبل الإفطار .. يبدأ الترحيل الجماعي لنا معشر المقاطيع الذين يجلسون حتى الخامسة بلا أي مشاكل .. بإعتبار أن الأكل على الله ..
ولأشبه أنا في داخلي ما يحدث لنا بذئاب الجبل .. تحديداً أغنية الحجار البديعة في هذا المسلسل : (جالو علينا ديابا وأحنا يا ناس غلابة .. يا مغنواتي غني حكايتنا ع الربابة )
في يوم قلتها لصديقي مدير السايبر , ليغرق في نوبة ضحك .. وأجده يشكرني .. يشكرني فقط لأنه ضحك ..
تهاويم تصبح الآن , واقعية قدر فطرية إنفعال الضحك ..
** ** ** **
أنتهى رمضان .. وأنا سعيد
لو أننا شبهنا الأمر بموضوع (قبل) و (بعد) كما يفعلون في جراحات التجميل .. سيكون واضحاً جداً ما طرأ علي من تغيير ..
أنا تغيرت حقاً .. وتغييري الذي كنت أعتبره مستحيلاً في الواقع أصبح واقعاً .. كـ .. كـ .. كالواقع ..
** ** ** **
شكراً .. :)

ليست هناك تعليقات:

المتابعون