الأربعاء، 15 أغسطس 2007

سعيدة


.. أراها دوماً جالسة في ذات المكان

جلباب أسود ومنديل تلفه كيفما أتفق على رأسها , لا يخفي الكثير من شعرها و يظهر من تحته عاتم السواد .. أراها دوماً في ذات المكان الذي لا يتغير .

جميلة هي . لا شك في هذا .. جميلة رغم كل ملامح الشقاء التي تملأ وجهها ..رغم أن بملامحها خشونة من نوع غريب , لكن من قال أن الخشونة تمنع الجمال من الظهور , كما أن تلك الخشونة مكتسبة لا محفورة في ملامحها ..
أمضي أنا وجدتي في السوق .. تعتبر جدتي السوق هذا مملكتها الخاصة .. وتمضي فيه بفخر كما لو كانت هي السبب الأساسي في وجوده .. تتلقى ترحيب الباعة في تواضع شديد وهي متوكئة عليّ , قد تتوقف أحياناً أمام بائع بعينه لتطلب شيئاً معيناً منه أو لتسأله عن أحواله وحياته .. جدتي تعرف الباعة بالاسم واحداً واحداً , ولديها كنز لا ينضب عن فلان الذي تشاجر مع فلان آخر لأنه أخذ ميراث زوجته , وأستمع أنا لكل هذه الحكايات في حال تتأرجح بين التركيز وعدم الاهتمام تقريباً .

دوماً نمضي في الاتجاه الذي تجلس هي فيه .. نقترب منها , تلمحنا فتخرج أبنتها التي كانت ترضعها من تحت جلبابها المتسخ وتقف مرحبة بنا قبل أن نصل لها ..

"سعيدة" دوماً تهمس لي جدتي قبل أن نقترب منها .. قالت لي هذه الكلمة .. وكنت أصر أنها قالت لي الاسم مئة مرة حتى هذه اللحظة ولكنها كانت تتجاهلني كل مرة أيضاً كأني لم أقل شيئاً .

جدتي تصافح سعيدة باليد وهو شيء لا تفعله إلا نادراً .. ربما تتخلى عن يدي أيضاً لتتوكأ على يد سعيدة وينهمكان في حديث هامس , أقف أنا خلاله بلا تعبير على وجهي .

"ابن بنتي" تشير لي جدتي بفخر .. جدتي تفخر بي بشكل يحرجني أنا شخصياً .. ودوماً تقول هذه الجملة لسعيدة لتهتف سعيدة باستغراب وبلهجتها الريفية المميزة : " أنا عارفة " وكالعادة تتجاهلها جدتي , ربما أصافح سعيدة وربما لا .. يعتمد هذا على مكان وقوفي ويعتمد كذلك هل تمد يدها هي بالسلام أم لا .. في المرات التي صافحتني فيها كادت يدي تجرح من خشونتها ..

"اليد البطالة نجسة" تكرر جدتي بلا هوادة كلما اشتكت سعيدة لها من خشونة يديها .. جدتي تطيب خاطرها دوماً بكلمتين لكنها تختم حديثها دوماً بذات الكلمة التي بدأت بها .. "اليد البطالة نجسة" .. ثم بعدها تنظر لي وتسألني عن الحل , جدتي تعتقد أن في يدي حلول الدنيا وما فيها , وما ينقص العالم فقط هو أن يستمع لي , أبتسم في حرج ثم أقول بضع كلام مما أعرف أنها لن تنفذ منه حرفاً , هل أتخيل أن سعيدة ستذهب للصيدلة لتطلب مستحضر لترطيب يديها , أحلم أنا إذن . لكني أؤكد لأطمئنها دوماً أن المشكلة قابلة للحل . وأطلب منها ألا تستخدم سائل التنظيف مباشرة على يدها , لتقول لي أنها لا تستخدم سائل تنظيف أصلاً , تغسل سعيدة الصحون بـ(برسيل) ذو الحبيبات المتطورة , أنظر لها مستغرباً , تفسر لي أن الصابون السائل غالي في حين أن عبوة الحبيبات المتطورة تمكنها من عمل العديد من الأشياء , تغسل ملابسها وملابس الطفلة وتغسل بها الأطباق , لكن سائل التنظيف لن يفعل كل هذا . أهز رأسي محاولاً ألا يظهر تعبير الأسى على وجهي .تسألها جدتي أن تدعو لي فتدعو الله أن ينير لي طريقي .. أشكرها بامتنان شديد من جمال الدعاء

تستغل جدتي ذكر سيرة الطفلة لتداعبها قليلاً , تستأذن سعيدة في حمل الطفلة , وسعيدة بحماس تقول لها أنها في مقام جدتها , وتطلب من جدتي ألا تستأذنها مرة أخرى , كل مرة جدتي تستأذن .

زوج سعيدة طلقها وهي حامل , رفضت أن تعطيه الأموال التي تكسبها ليشرب الهباب الذي يشربه , وجدتي تعتقد أنها بنت بستين رجل لأنها استطاعت أن توقفه عند حده , تعتبر جدتي رجال العالم جميعاً بلا استثناء مجموعة من الأوغاد في حين أن نساء العالم مجموعة من المنحلات . أحاول أن أبين لها أن الناس ليسوا بهذا السوء حقاً لكن قناعاتها أصبحت بمثابة المعتقد الديني .. العالم أصبح شرذمة من الأفاقين الكاذبين .. لكن سعيدة بنت حلال .. رأي جدتي في سعيدة أنها لا تستحق ما يحدث لها , لأن البنت شريفة وطيبة وبنت حلال .

تشتكي سعيدة لجدتي من مضايقات الباعة المحيطين بها , تطيب جدتي خاطرها دوماً وتقول لها همساً : " يغيروا منك يا عبيطة " سعيدة تبتسم بخجل حقيقي ويتخلى وجهها عن خشونته وتتلاشى التجاعيد التي تحيط بفمها وهي تبتسم وتقول بعذوبة : " ليه يعني ؟ " .. تضحك جدتي من قلبها .. وتهتف بصوت مرتفع نسبياً : " عيون الناس تعّرفك " , تتسع ابتسامة سعيدة للغاية فيصبح وجهها فاتناً .. تحكي لي جدتي عن مشاجرة رهيبة نشبت في السوق في الوقت الذي كنت فيه مسافراً , السوق أستيقظ يومها على سعيدة الطيبة التي قد تصل طيبتها للبلاهة وقد تحولت لنمر مفترس , تمسك ابنتها بيدها اليمين , تحكي جدتي , وتمسك أحد الباعة من رقبة جلبابه بيدها الأخرى وتسبه , الشهادة لله البنت لم تسب أباه ولا أمه هو فقط , تكمل جدتي لأنها تعتبر أن الذي يسب الأب والأم يستحق أسوأ عقاب , السوق حتى هذه اللحظة لم يعرف سبب الشجار لكن الشاطر يفهمها وهي طائرة كما تعبر جدتي عن الموقف .. ماذا كان يريد يعني من امرأة في حالها مثل سعيدة ؟ في نهاية الأمر جلبها الجزار لتجلس بجوار محله الذي يقع في وسط السوق , رجل ولا كل الرجال , تعرفه جدتي جيداً وهي التي قالت له هذا بنفسها بعد أن أعلن شهامته , فقط ليقول لها أن عنده بنات وسعيدة في مقام ابنته , تنسى جدتي كل هذه المواقف حين تتحدث عن الناس بعد ذلك ولا جدوى محاولة تذكيرها بأي شيء .

بعد فترة من الحديث تطول أو تقصر , تبدأ جدتي الاستعداد للرحيل تقبل الطفلة وتدس يدها في يد سعيدة التي تقاوم يد جدتي بشدة , جدتي تصر وهي تتلفظ بكلمة " لبنتك" وتناديها بشتائم متعددة " لبنتك يا عبيطة " وترفض سعيدة بشكل قاطع .

تتوقف جدتي عن المحاولة وتعود لتمسك بيدي وهي تقول لسعيدة بصوت لاهث من المجهود :"أنا غضبانة منك ".. لا تجيب سعيدة فقط تبتسم ابتسامه تبرز جمالها وتقول في حرارة : " نورتي يا حاجة " .. " نوّر الله دنياك يا بنتي " .. أحيي أنا سعيدة بهدوء فتمد يدها لتسلم عليّ .. هذه المرة أصمم على ألا أجعل نفسي أحس بخشونة يدها .

نسير أنا وجدتي لبعض الوقت صامتين .. أسمعها بعد لحظات تقول لي بغيظ : "غبية " .. أفهم أنها تتحدث عن رفضها لأخذ المال .. وأبتسم بعدها وأنا أسمع جدتي تقول بتحسر : " لكن بنت حلال " .

المتابعون