الاثنين، 20 أغسطس 2007

مطار . رنا .. وأم في غاية الجمال

أنا أحب المطار .. من الأماكن التي تعني لي كثيراً , أنا أحب المطارات حقاً .. ربما لكثرة ما سافرت , ربما لكثره ما سأسافر , لكني حقاً أعتبر المطار تجربة لابد من أن يخوضها الإنسان حتى أعتبر أنه رأى الكثير .ربما المطار يجذب نظري دائماً باعتباره المكان الذي تظهر فيه العواطف والمشاعر بشكلها الخام والبكر , لعلي هذه اللحظة أعتبر كلمة حب مرادفاً لمشهد رأيته وأنا مسافر . لن أنسى المشهد في حياتي , كلما ذكرت كلمة حب أمامي أرى المشهد أمامي مرة أخرى , فتاة شابة تركض والدموع لم تترك مكاناً في وجههاً نحو رجل يحمل حقائبه .. تحتضنه قبل حتى أن ينزل الحقائب على الأرض , ترتمي في حضنه بالمعنى الحرفي لكلمة حضن . ظل هذا المشهد في خيالي طويلاً

هذه المرة لست أنا من سيسافر . لكن الأمر لا يختلف طالما سأكون في المطار .. في أي حالة أرى فيها المطار أعرف أن يومي سيكون يوماً مميزاً

أوصلت أقاربي , للحظات شعرت بحسد لهم .. أنتم سترون أشياء لن أراها , هذا الشعور يتحول لنوع من الزهو في حالة لو أنني من سيرحل .. ودعتهم ثم كدت أرحل لولا أنهم أخبروني أن الطائرة ستتأخر قليلاً , أخبروني بالهاتف المحمول في اللحظة التي كنت فيها أفتح باب السيارة .. لا بأس سأنتظر في المطار .. قلتها بهدوء وبلا أي نوع من الامتعاض , بالعكس ربما شكرت الظروف .. حاولوا إثنائي عن هذا لكني كنت مصراً للغاية ..

اخترت كرسياً في مكان منعزل بعض الشيء ,المطار هذه الأيام يبدو كحافلة نقل عام .. جلست , ثم أخرجت رواية التلصص لصنع الله إبراهيم .. هذه الأيام أنا أقرأ كثيراً لصنع الله .. ربما لتعويض الفترة التي كنت فيها لا أعرف من هو , لا أظن أنه من العيب أن أعترف بجهلي .. لكني حقاً لم أكن أعرف عنه الكثير .. بعدها ندمت للغاية لأني اكتشفت اني حرمت نفسي من كتب في غاية الروعة .. أخرجت التلصص كما قلت وبدأت في القراءة .. في المعتاد عندما أقرأ أنسى أصلاً أين أنا .. لهذا يمكن تخيل مدى دهشتي حين شعرت بأحد ينقر على ركبتي .. حركت الكتاب من أمام عيني لأفاجأ بطفلة في غاية الجمال .. هل تعرفون الفتاة الصغيرة التي تظهر مع نانسي عجرم لتقول : أسمها حلا .. تشبهها تماماً لكن لو استبدلنا شعر الفتاة بالأسود .. استغرق الأمر بضع لحظات لأعقد حاجبي وأرسم على وجهي ابتسامة وأسال : نعم ؟ " شو بتقرا ؟! " .. بعد أن تغلبت على صدمة اللهجة , كدت أسالها هل لها أخت أسمها حلا .. لكني كتمت خواطري بصعوبة وأنا أضحك وأقول : " رواية " .. " إصة؟ " .. هززت رأسي أنها (إصة) .. "شو أسما " .. هل ستفهم معنى كلمة التلصص .. فكرت قليلاً ثم غلبتني رغبة العبث : " التلصص " .. عقدت حاجبيها لتتساءل : " تلـ.. ولا تكمل الكلمة .. ضحكت من قلبي لكني توقفت عن الضحك وأنا ألمح حاجبيها ينعقدان .. قلت لها بسرعة : " أنا نفسي أنطق الأسم بصعوبة "

حركت رأسها .. " عندك كم سنة ؟ " .. " عشرة .. وأنت ؟ " .. أعجبتني جرأتها للغاية .. "19 " قلتها فقالت لي فوراً : 9 سنين فرق بيناتنا " .. "تقريباً ".." شو أسمك ؟ " .. سألتني فقلت لها أحمد .. وسألتها .. " رنا "

" عن شو بتحكي الأصة " .. " للحظات لم أستطع الإجابة .. القصة في غاية التعقيد .. لم أجد إلا كلمات عامة للغاية " عن مصر من زمان اوي " .. هزت رأسها متفهمة ثم قالت لي : " أنا بحب إقرا " .. هززت رأسي مشجعاً ثم سألتها : "انتي من سوريا ؟ " .. "أبوي من مصر .. وأمي من لبنان " .. هززت رأسي أنا هذه المرة .. خطر في بالي خاطر للحظات ثم سألتها : " أنتي تايهة " .. لم يبد عليها أنها فهمت سؤالي .. فقلت : " عارفة ماما فين ؟ " .. هزت رأسها سريعاً .. " ماما بتخلص الوزن " .. هززت رأسي مطمئناً ثم سألتها : " انتي بتحبي تقري ايه ؟ " .. " بحب اقرا شعر " .. نظرت لها بذهول .. " شعر مرة واحدة " .. هزت رأسها في سعادة وهي تتحرك لتجلس بجواري .. " بحب اقرا شعر " .. " لمين يعني مثلاً " .. " ماما عندها كتاب لشاعر اسمه قباني .. بحب اقرا شعره " .. انا وصل ذهولي لمداه .. " نزار قباني ؟؟ " .. هزت رأسها بسعادة .. ثم أكملت لتشرح لي أنه الشاعر الذي يغني كاظم الساهر قصائده .. مازالت ملامحي متجمدة لا أعرف ماذا أنطق .. أكملت هي : " تعرف سلاف فواخرجي .. ظهرت معه في غنية " .. أكملت أنا لأني أعتبر سلاف من أجمل من رأيتهن في حياتي .. "سلاف فواخرجي .. هو فيه حد ما يعرفهاش ؟ " .. انتبهت لشيء آخر فسألتها .. " هي ماما قالت لك تستني في مكان معين " .. " لا بس هي لما تخرج من الوزن أنا بشوفها " .. هززت رأسي .. ثم لم أستطع كتمان الجملة : " ماشاء الله عليكي " .. ابتسمت هي ولم تعلق .. " أمال بابا مش هيسافر معاكم ؟ " .. "بابا وماما متطلقين .. لكن ماما بتجيبني في الأجازة عشان اقعد معه , وهي بتقعد ف اوتيل .. " .. الحلو ما يكملش .. " ربنا يخليكي ليهم " .. " أنت فين ماما وبابا " .. قلت لها أنني كبير بما فيه الكفاية لكي لا تسألني هذا السؤال فضحكت .. أشرق يومي مع ضحاتها فعلاً .. " دمك خفيف كتير " .. عندما يأتي المدح من طفلة , وطفلة في جمال وعقل هذه الطفلة يصبح كأنه أجمل شيء في الوجود .. " شكراً " .. " عندك أخوات " .. سألتني فقلت لها أثنان .. واحدة في مثل سنها وواحد في الثانوية .. " أختي الكبيرة بالثانوية هادي السنة " .. "ربنا يوفقها " .. " أنت بتدرس ؟ " .. "آه .. في كلية الطب " .. ظهر الإنبهار على وجهها .. " بتلبس بالطو " .. كتمت ضحكاتي بصعوبة وأنا أقول نعم .. سألتني : " شو معنى التلص..." .. كتمت ضحكاتي ثانية ثم فكرت قليلاً .. " عارفة لما واحد يراقب حد .. زي التجسس كدا .." كدت أكمل لولا أنها نهضت من مكانها فجأة وركضت بعيداً .. هل انا مرعب لهذه الدرجة .. لحظات وعادت .. لم ألحظ أن معها أحداً إلا بعد أن قالت .. " أحمد .. هايدي ماما " .. نظرت لـ"ماما " وتسمرت عياني للحظات .. الآن عرفت من أين أتت رنا بكل هذا الجمال .. تمتمت في سري أن "سبحان الله " ..الآن أعرف من أين يأتي اللبنانيون بكل هذا الجمال .. ما الذي يدفع رجلاً عاقلاً لأن يطلق فينوس .. صافحتني وهي تبتسم .. "ميرسي كتير على ذوقك , وميرسي أنك استحملت رنا " .. ابتسمت وقلت الحقيقة : " المفروض أني أقول ميرسي لرنا على الفرصة السعيدة دي " .. ضحكت واحمر وجهها للحظات .. " ميرسي " .. هززت رأسي .. " الطيارة معادها قرب كتير " .. قالتها .. سلمت علي رنا .. مدت قامتها لأعلي فأعطيتها وجنتي .. قبلتني .. ما أجمل هذه المشاعر عندما تأتي من الأطفال .. لم أجد ما أفعله إلا أن أقول لها : شكراً .. تذكرت تعبيراً لداليا.. قالته مرة في قصة من قصهها .. فكررت .. شكراً يا قطعة السكر .. سلمت على أمها .. وقلت في صدق : " نورتوا مصر .. بجد " .. شكرتني ثم أمسكت بيد رنا .. ابتعدوا خلف البوابة الزجاجية .. وجدت رنا تلوح بيدها .. لا أعرف هل ستيتطيع رؤيتي من خلف الزجاج .. آخر مرة كنت فيها خلفه كان معتماً تقريباً , أم أن هذا كان في مكان آخر .. تحركت من مجلسي .. مشيت قليلاً بميل . حتى صرت أراهم بزاوية ما .. لوحت لها بيدي .. رأتني ولوحت بيدها هي الأخرى وكذلك فعلت أمها ..

عدت لمكاني مرة أخرى .. لا أعرف .. هل مازال أقاربي كل هذا الوقت في الطائرة .. خير ؟ .. كدت أتصل بهم لولا أني سمعت صوت شجار .. تحركت لمكان الصوت لأني فضولي بشكل مرعب .. وجدت رجلاً خليجياً بقميص وبنطال .. يصرخ في وجة آخر .. دققت للحظات وشعرت أنه ينتمي لقائمة دول : "الهند باكستان بنجلاديش "

إختلاف على الأدوار فيما يبدو .. المشكلة أن ذو الجنسية المختلف عليها كان يدفع أمامه عربتين ومعة ثلاث فتيات .. يعني أنه سبق الخليجي على ما يبدو بفترة .. الخليجي مستمر في الصراخ ولا أحد من أي طرف يتدخل .. المشكلة أنه يستخدم ألفاظاً نابية باللغة الإنجليزية .. بين حين وآخر يقول stupid لكنه يستمر في قول كلمة سيئة للغاية يترجمونها عندنا في القناة الثانية على أساس أنها " أيها الوغد " .. للحظات شعرت بالابتذال مما يحدث .. نظرت لمن معه فوجدت فتاة ترتدي العباءة التقليدية وتضع على عينيها منظار شمس عملاق .. انتهى الأمر حين تدخل ضابط المطار وصرخ في وجة الجميع ليعود الأمر كما كان ..

انتهى الأمر على ما يبدو .. شعرت حينها بالحرج من وقوفي بهذا الشكل.. وبالخجل من نفسي .. وجدت نفسي أقول : المولد شطب يا جماعة .. لتتصاعد ضحكات متفرقة ..
أخرجت الهاتف لأتصل بهم .. وجدت الفتاة التي رأيتها تضع على وجهها المنظار الشمسي وهي تقبل شخصاً أصلع بعض الشيء وشعره الباقي تحول للأبيض , رث الثياب نوعاً ما وأم بدينة ترتدي جلباباً تقليدياً .. مصرية هي إذن .. وجدت خلفها زوجها إذن , وهو ينتظر ليسلم على أبيها وأمها ..
أنا لا أحاول أبداً أن أحمل وجهه نظر عنصرية من أي نوع وأكرر دوماً أني أرفض أي تقسيم من أي نوع لأن الله ذاته قال أن البشر جميعهم سواسية ..
لكني لم أستطع منع شعور الأسى الذي تسلل لي .

المتابعون